السبت، 29 مايو 2010

المكان : المفهوم والسيميوطيقا ( منشور بجريدة الراي الكويتية 20 / 5/2010


مقال جديد في جريدة الراي الكويتية اليوم الإثنين 24 / 5 / 2010م للدكتور مصطفى عطية
على هذا الرابط http://www.alraimedia.com/alrai/Arti...&date=20052010وإليكم نص المقال :
المكان : المفهوم والسميوطيقا
د. مصطفى عطية جمعة
يعتري مصطلح المكان إشكاليات في الدراسات النقدية وهي ناتجة عن الترجمة الغربية للمصطلح «Space، Espace»، فلم يتعامل النقاد الغربيون مع مصطلح «المكان» إلا عرضا، وقد ترجم بعض النقاد العرب المصطلح الأجنبي بـ «الفضاء»، وهو يعني في طياته الخواء والفراغ «Emptiness»، وأيضا يعني الخلاء المكاني، والبعض يترجمه بـ «الحيز»، ويشمل معطيات المكان: النتوء، والوزن، والحجم والشكل، وهو الشيء المبني في فضاء مكاني، وهو أيضا الامتداد المتصور، ويمكن أن يدرس من خلال وجهة نظر هندسية (1)، فالفضاء بمثابة الوعاء الضخم الذي يستوعب بداخله الأمكنة المختلفة: الكون بمجراته ونجومه وكواكبه، والأرض بما عليها، وإن كانت دلالة الفضاء تعني في الذهنية العربية: الفراغ والخواء وأيضا العدم. ولفضّ هذه الإشكالية، ما بين إطلاق تسمية المكان أو الحيز أو الفضاء، نعود إلى المفهوم المقصود بدايةً، فهو يشير إلى دلالة الموضع الذي يعيش عليه الإنسان على سطح الأرض، وهذا الموضع يشمل موقع سكنه، وعمله، وسائر أوجه نشاطاته وعلاقاته الإنسانية بكل تداخلاتها وأبعادها، ويتسع أكثر ليشمل الطبيعة من حوله: صحراء، غابات، أنهار، أمطار... وهو تنعكس على تكوينه، مثلما تتأثر بأنشطته وحياته. والدلالة اللغوية في المعاجم العربية، تشير إلى أن المكان هو: الموضع، وتعني التوسع المكاني، وتطلق على وكنات الطير والمنازل ونحوها (2) وأيضا تعني الاستقرار والوجود والثبات في مكان ما وجمعها أمكنة وأماكن (3)، وبالتالي، فإن المعنى هنا يتفق مع الدلالة المبتغاة، فلا بأس من إطلاق تسمية المكان عليها، فالعبرة بالدلالة المقصودة والمفهومة لدى الباحث والقارئ، خاصة أن المصطلح مستخدم في الدراسات الأدبية العربية منذ عقود، واستقر استعماله بشكل كبير. فعندما يذكر المكان فهو: موضع العيش والإقامة، وموضع السفر والهجرة، وهو الحيز الذي يحوي الإنسان وأنشطته، ويتسع ليشمل الأرض بما عليها. وبعبارة أخرى، فإننا نربط المكان بالرؤية الأدبية والنقدية المتفق عليها، وننأى به بعض الشيء عن المقصود الحرفي للكلمة الأجنبية، التي قد تشمل الفضاء الخارجي، وهذا ما يؤيده الفلاسفة وبعض العلماء، بتحجيم خصائص الفضاء «الحيز» وقصرها على مجرد علاقات بين الأجسام الحقيقية، فالمكان «مجرد وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن هذه العلاقات وهم يرون أن العلاقات المكانية بين الأجسام لا تحتاج إلى وجود شيء ملموس قائم بذاته اسمه المكان إلا بقدر ما تحتاج العلاقة بين مواطني بلد ما شيئا ملموسا اسمه المواطنة «(4). وهذا يعني أن المكان مجرد اصطلاح دال على وجود، وهذا الوجود: بشر، بيوت، مصالح، تشابكات، تعاركات، ومن وراء ذلك هناك أفكار ومشاعر وأحاسيس ورؤى تتوالد، وهذا ما يترسخ في أعماق الأديب، لتملأ وجدانه، ويفيض بها مداد قلمه. لذا فإن مفهوم المكان في الأدب لا يفهم من خلال الوصف المادي فحسب، وإنما في العلاقة الجدلية التي بين الإنسان/ البطل/ الأديب والمكان، وفي العلاقة الدافئة أو الحادة، التي تستشعرها الذات الأدبية في علاقتها بالمكان، وهذا ما سيتم تفصيله بعدئذ. المكان/ الزمان: قد يكون هناك تصور أن لا علاقة بين المكان والزمان؛ فشتان بينهما، فالمكان مادي، أما الزمان فهو يدرك ويلاحظ، أي غير مادي، وإن كان يمكن متابعته وقياسه بوسائل مادية. ولكن علماء الرياضيات والفيزياء لهم رأي مختلف في هذا الشأن، حيث يكاد تعريفهم للمكان يتماثل مع تعريفهم للزمان، فهو يرون أن الحركة تعد حلقة وصل بين الزمان والمكان، فدراسة حركة الأجسام والإشارات الضوئية تكشف عن أن المكان والزمان ما هما في الواقع إلا مظهران لبنية واحدة تسمى المكان/ الزمان(5) أو الزمكانية إذا جاز التعبير، وهذا لا يبدو إلا بالتأمل فيما حولنا، فالسفر، أيا كان برا، بحرا، جوا، وفي الفضاء الخارجي؛ يعبر عن الوحدة الزمانية والمكانية، فإذا كنا نقطع الطريق مسافة مئة كيلو متر لمدة ساعة، فهذا يعني مكانا وزمانا متحدين، والأمر نفسه في حركاتنا في الفضاء المكاني، فنحن نقضي حوائجنا بحركة أجسادنا في زمن ما على مكان ما، وهكذا يكون الزمكاني، وبه نقرأ الوجود من حولنا، ونقرأ المكان قراءة شاملة، لا تحصره في المادي فقط، فهو يشمل الزمان والإنسان أيضا.وهذا ما ينطبق على الحدث في القصّ، فالحدث لا يختزل في مجرد الحركة، وإنما هو دال على نشاط الإنسان، في فضاء المكان، خلال فترة من زمن، أي تتطور قراءتنا لأحداث القصص من فهم الحدث كحدث إلى تحليل المكان ودلالته، والزمان وأثره. على جانب آخر، فقد ثوّرت النظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان بوصفهما وحدة واحدة، متجاوزة ما طرحه نيوتن؛ الذي رأى أن المكان ليس مطلقا في وعينا، بينما الزمان مطلق، فالمكان لديه نسبي أما الزمان فثابت، ثم يجيء أينشتين ليعارضه مؤكدا أن الزمان والمكان نسبيان، فكل إنسان لديه إدراكه الخاص للزمان، الذي يشابه المكان في نسبيته. وكي تتضح الصورة أكثر، فإن إطلاق شعاع من جهاز رادار على الأرض إلى القمر، سيختلف إدراكه زمانيا ومكانيا فلو حسبنا مسافة الشعاع من مركز الشعاع على الأرض إلى القمر ستكون مختلفة عندما نحسبها ونحن واقفون بعيدا عنها عند القطب الشمالي مثلا، ونفس الأمر في الزمان، فرؤيتنا لزمن الشعاع يختلف من مركز الأرض عنه من قطبي الأرض وهكذا (6). ولو طبقت هذه النظرة على الصعيد الأدبي، فإن تعاملنا مع المكان يختلف من فرد لآخر، رغم الاتفاق على مكوناته، فإدراك البدوي للصحراء التي عاش فيها وتعامل معها ؛ يختلف جذريا عن إدراك الجيولوجي لها، وعن إدراك عالم النبات، وأيضا يختلف العصر زمنيا في وعي من عاشَه، عن وعي المؤرخ الذي يسجل أحداثه، أو من يقرأ هذا التسجيل في عصور لاحقة. إذا وعي الذات للمكان، يختلف زمنيا، فلا يقرأ المكان بمعزل عن الزمان.سيموطيقا المكان: تحيلنا السيميوطيقا «علم العلامات»، في قراءتها للمكان إلى إدراك جديد للمكان، يتجاوز ماديات المكان إلى علامات المكان؛ فهو «ليس فضاء فارغا، ولكنه مليء بالكائنات وبالأشياء... والأشياء جزء لا يتجزء من المكان، وتضفي عليه أبعادا خاصة من الدلالات «(7)، فالمكان الذي نحيا فيه ليس سلبيا ولا صامتا، ولكنه يحمل دلالة تتخلل جميع الأبعاد والإحداثيات والأركان والظواهر الطبيعية والأشياء، وهي تتمثل خير تمثيل في الفن (8)، فعندما نذكر أشياء من المكان فهي بمثابة علامات عليه وعلى مكوناته، فلا يحتاج المبدع إلى ذكر تعريف تفصيلي لمدينة شهيرة، وإنما يكتفي باسمها، وبعض معالمها في سياق نصه، وتكون هذه المعالم إحالات تعطي أبعادا معرفية وتأويلية ونفسية للقارئ. فتتم دراسة الإشارات المكانية ضمن منظومة «سيميوطيقية» علاماتية كاملة، وفي ضوء معطيات النص الجمالية والرؤيوية، فليست الأطلال في الشعر الجاهلي- الواردة مجرد إحالات معرفية بل إشارات مكانية، إنها رموز على زمن تولى، كان للشاعر علاقات مع شخوص عاش معهم فيها، وكانت الأطلال كلما مر بها شاهدة على حقبة زمنية، بكل تداعياتها وأحداثها. وتختلف هذه العلامة من شاعر لآخر، مثلما هي تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، فتكون علامة مميزة للنص، وتفهم من سياقه، وتعكس نفسية شاعره. إن كل نص له علاماته المكانية، التي تكون وسيطا بين المبدع والقارئ، وتبدأ هذه العلامة بمعلومة مفصلة أكثر، ثم تتحول في متن النص إلى علامة على هذه المعلومة، وكلما ارتبطت الأحداث بهذه العلامة المكانية، ازدادت إيحاءاتها كلما ذُكِرَت في النص، ويتفرع عنها في ثنايا النص علامات فرعية، تشكل في مجملها شفرات مكانية، تساهم في إنتاج الدلالة بشكل إضافي، إذا قرئت بعناية. فالشفرات السيموطيقية «Code « توفر إطارا تصوريا، تصبح العلامات فيه مفهومة، أي أنها أدوات تفسيرية تستخدمها الجماعات أو التجمعات التأويلية» (9). وكي يتضح المفهوم أكثر، فإن المبدع مثلا- يذكر القرية التي تدور أحداث قصته فيها، وقد يشير إلى موقعها، وطبيعة سكانها في متن النص، ثم يبرز أهم علاماتها المكانية؛ وهذا نوع من التمهيد المكاني للأحداث، ثم يكتفي بذكر علامة من القرية «منزل العمدة مثلا»، مع أحداث وشخوص فيه، يغلب عليهم الظلم والجبروت. فيمتزج منزل العمدة في وعي المتلقي بالظلم، فإذا ذكر بعدئذ، يأتي محملا بشخوصه وإيحاءاته التي تترسخ في وعي القارئ، وتظل معه كلما استدعى هذه الرواية في ذاكرته، أو وردت العلامة في سياق آخر.
_______________________
* كاتب وناقد مصري Mostafa_ateia123@yahoo.comالهوامش(1) في نظرية الرواية «بحث في تقنيات السرد»، عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص141، ص14. (2) لسان العرب، ابن منظور، مادة مكن، وأيضا المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2008م، ص588، والقاموس المحيط، الفيروزأبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996م، ص1594. (3) لسان العرب، مادة كون، والوجيز مادة كون، ص546. (4) المفهوم الحديث للزمان والمكان، ب. س. ديفيز، ترجمة د. السيد عطا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص12. (5) السابق، ص13. (6) تاريخ موجز للزمان، ستيفن هوكنج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001، ص30، 31. (7) القارئ والنص «العلامة والدلالة»، سيزا قاسم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص48. (8) السابق، ص50. (9) معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات «السيموطيقا»، دانيال تشاندلر، ترجمة: الدكتور شاكر عبد الحميد، منشورات أكاديمية الفنون، القاهرة، 2002، ص30.