الأحد، 18 أبريل 2010

مجلة البيان السعودية تنشر بحثا جديدا للدكتور مصطفى عطية بعنوان : المسجد الأقصى ومخططات التخريب والتهويد : قراءة توثيقية

المسجد الأقصى
ومخططات التخريب والتهويد والسياسة
قراءة توثيقية

د.مصطفى عطية جمعة
Mostafa_ateia123@yahoo.com
( نشرت مجلة البيان الإسلامية السعودية في عددها الجديد ؛ جمادى الأولى ، 1431هـ ، إبريل 2010م ، رقم 273، بحثا جديدا للدكتور مصطفى عطية وهذا هو البحث )

منذ سقوط القدس الشرقية في أيدي اليهود عام 1967 م ، والصهاينة يسعون إلى تنفيذ مزاعمهم الدينية حول الهيكل ، وحول تهويد القدس ، ويمكن أن نرصد أبرز الاعتداءات على الأقصى ومحيطه في نقاط مركزة ، من أجل المزيد من التعرف التفصيلي على هذه الاعتداءات .
فعند سقوط المدينة ، قامت إسرائيل بتغيير معالم القدس في الطرق وعملت على إزالة الأحياء والحواري العربية ؛ بدعوة تيسير زيارة اليهود لحائط المبكى، فأزالت حارة المغاربة التي تجاور المبكى ، وبدأت في إجراء الحفريات حول وتحت المسجد الأقصى بدعوة البحث عن آثار هيكل سليمان ، مما هدد المسجد الأقصى في أساساته . فتم توسيع الشوارع التي تخترق خط الهدنة وتعبيدها من جديد ، وهدم 135 منزلا عربيا في حي المغاربة مقابل حائط المبكى ، ثم افتتح القطاع اليهودي في القدس الغربية وتم دمجه في القدس الشرقية ، وحل مجلس البلدية العربية ، وإلحاقه ببلدية القدس ، ودمج كل القطاعات المدنية العربية في منظومة الحكم الإسرائيلي(
[1]) ، في الوقت الذي انتابت اليهود في العالم عامة ، وفي إسرائيل خاصة حالة من الهوس الديني بسبب " نجاحهم المفاجئ ، والعجائبي على ما يظهر ، في الوصول إلى المدينة القديمة ( القدس الشرقية ) . لقد خاضت إسرائيل الحرب ضد مصر لأسباب ترجع إلى اعتبارات بالغة الأهمية ومتعلقة بالأمن ، لكن إسرائيل ما إن خرجت منتصرة على جميع الجبهات ، حتى بدت النتيجة الأشد مغزى في عقول ومشاعر الإسرائيليين واليهود الآخرين ليست قابعة في سيناء، بل في القدس " ([2]) .
لقد وصل الاستهتار بإسرائيل إلى أنها أقامت عروضا عسكرية في القدس ، عام 1968م ، وصدر قراران من الأمم المتحدة في نفس العام يأسف لهذه التجاوزات ، ولكن إسرائيل لم تأبه لها .
وقد اتخذت اليونيسكو بحكم أنها مؤسسة دولية – تتبع الأمم المتحدة - تعنى بالحفاظ على الثقافة والتراث في العالم قرارها في خريف 1968م بمطالبة إسرائيل بالحفاظ على الممتلكات الثقافية ( الحرم القدسي والآثار الإسلامية) في القدس القديمة ،وأكد ذلك مجلس الأمن ذلك بقراره رقم ( 267 ) في 3/ 7 / 1969م ، على أهمية توقف إسرائيل عن إجراءاتها لتغيير وضع القدس ، ولكن إسرائيل لم ترضخ ، ومن أمثلة تحدياتها السافرة : تحويلها "المدرسة التنكزية " وهي إحدى مدارس القدس الشهيرة التي أنشأها المماليك عام (729هـ ) ، حولتها إلى مركز للشرطة العسكرية ، دون أي نظر لطبيعتها الأثرية والثقافية (
[3]).
وسبق لعصابات اليهود أن قصفوا المسجد الأقصى بالقنابل إبان حرب 1948 م، حيث استشهد بعض المصلين فيه ، وعقب احتلال القدس عام 1967م ، صرح وزير الأديان الإسرائيلي في مؤتمر ديني كبير عقد في القدس أن : " أرض الحرم ملك يهودي بحق الاحتلال وبحق شراء أجدادهم لها منذ ألفي سنة " (
[4]) .
ونرى وقع وزير مالية إسرائيل قرارا باستملاك الحي المعروف باسم الحي اليهودي في القدس القديمة المحتلة ، لقربه من المسجد الأقصى ، والحقيقة أن هذا الحي كما يقول علماء الآثار التوراتيين مكمل لحائط المبكى ، وكذلك يدّعي التوراتيون أن التتمة الشرقية لحائط المبكى اليهود تقع تحت المسجد الأقصى ، وأن القسم الجنوبي منه على مستوى أساساته . وهذا ادعاء شديد الخطورة ، لأنه يعني هدم الأقصى ، لإقامة الهيكل . وقد كان اليهود يدّعون بعد حرب 1967م أن هدم الأقصى سينهي تعلق المسلمين بالقدس ، مما يسهل نسيان القضية وإنهائها تماما في وعي المسلمين(
[5]).
إن مراسم الاحتفالات عند حائط المبكى ، والتخلص العاجل من حي المغاربة ، وضم القدس العربية ، تمثل في عقول الإسرائيليين " إعلانا ثانيا من الاستقلال السياسي والعاطفي ، يضاهي إعلان قيام دولة إسرائيل في مايو 1948م ... ، واعتبر الرأي العام الإسرائيلي ضم القدس عملا لا يُقبَل التفاوض عليه ولا يمكن الرجوع عنه "(
[6]).
وفي 16 أغسطس استولى الحاخام الأكبر في إسرائيل ويدعى " راف فسيم " وبصورة علنية على منبر كلية البنات العربيات القريبة من حائط المبكى ، وجعل منه دارا للمحكمة الربانية ، مدعيا أن هذه الدار كانت مجاورة لهيكل سليمان قديما(
[7]) . وهذا يعني مواصلة نهج محاصرة الحرم القدسي من كل الجهات ، على أمل الانقضاض عليه .
و فور احتلال القدس الشرقية هرع " بن غوريون " في ( 8 حزيران 1967م) إلى حائط المبكى ، وتطلع باشمئزاز إلى إشارة " البراق " المحفورة بالسيراميك وقال : " يجب إنزال هذا الشعار " فأنزل في الحال. ثم سارع زهاء مئتي ألف إسرائيلي إلى المسجد الأقصى عبر طريق البراق الشريف فأدوا صلاة نزول التوراة . كما أدخل اليهود إلى الحرم الإبراهيمي خزانة ضمنها نسخة من التوراة وبعض الكتب الدينية ، وصلى اليهود في ساحة الحرم الإبراهيمي ستة أيام متتالية، وانسحبوا منه بعد معارضات شديدة من المسلمين ، ولكنهم أبقوا على الخزانة بكتبها(
[8]).
كما دعا الحاخام العسكري الأكبر " سلومو غورين " في أغسطس 1967م المؤمنين من اليهود للصلاة في صحن الأقصى المبارك ، وكان سيدعو صراحة خلال هذه الصلاة إلى إعادة تشييد الهيكل مكان الأقصى ، ولكن خشت الحكومة الإسرائيلية من ثورة المسلمين ، فألغت الدعوة(
[9]).
ونجد أن جريدة " نيويورك تايمز " قد نشرت في 11 حزيران عام 1968م ، خريطة مشروع إعادة بناء الأماكن المقدسة ، وقد اختفى الحرم القدسي منها ، وحل محله صورة لهيكل سليمان المزعوم(
[10]).
الحفريات أسفل المسجد الأقصى :
وسارت خطط اليهود في الحفريات ( وقد سبقت الإشارة إلى بعضها ) بهدف إضعاف أساسات المسجد الأقصى ومن ثم تصدعه وتهاويه ، ففي 18 يوليو 1967م ، بدأت الحفريات في آخر حائط المبكى الشمالي ، وأعلن عن العثور على بقايا بناء مجهول ( اتضح فيما بعد أنه من الآثار الإسلامية ) ثم واصلوا الحفر تحت المحكمة الإسلامية الشرعية المجاورة للأقصى شمال حائط المبكى . وفي يوليو 1967م ، استقدم المنقبون بلدوزرا للتنقيب بجانب أساسات الأقصى ، وقاموا بنسف بعض البيوت الملاصقة للأقصى بمتفجرات عالية القوة ، واحتج على ذلك رئيس اللجنة الإسلامية العليا ورئيس الأوقاف الشيخ حلمي المحتسب ، وأرسل رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ، ولكن الأخير لم يعط الأمر اهتماما . جدير بالذكر أن اليهود يزعمون أسطورة عجيبة ، ويؤمنون بها إيمانا مطلقا وهي أن تحت المسجد الأقصى ثلاثة أسوار ، ضمنها غرفة مغطاة بالذهب الصافي ، وأن هذه الغرفة حاوية للوصايا العشر التي خلفها النبي موسى ، وتدعى الغرفة "قدس الأقداس" ولا حق لدخولها إلى للحاخام الأكبر ، فإن دخلها سواه وجب قتله (
[11])، وشاء الله أن يحفظ الأقصى ، وظهر كذب هذه المزاعم عام 1998م ، بالإعلان عن عدم وجود أية آثار تدل على الهيكل وقد أعلن في يوليو 1998م فريق من علماء الآثار العاملين في دائرة الآثار الإسرائيلية بطلان الادعاء بأن : داوود التوراتي ، هو الذي أنشأ القدس ، وقال العالم " روني ريك " : " آسف .. ، لأن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه القصة " ، وترتب على ذلك رحيل فرق البحث الغربية والإسرائيلية إلى أماكن أخرى . ثم ظهر بناء على ذلك اتجاه جديد يدعو إلى فصل العلاقة بين الآثار التاريخية وما جاء في الكتاب المقدس ، باعتبار أن الكتاب المقدس التوراتي كتاب ديني روحي ، بينما الآثار ملموسات مادية ومن رواد هذا الاتجاه العلماء : "لاب ، دوفو ، ديغر ، فرانكن ، وهم رجال دين عاملون بالآثار ([12]) .
في 29 / 1 / 1976م ، أصدرت مجموعة الصلح الإسرائيلية في القدس قرارا استفزازيا يقضي بحق اليهود في أداء طقوسهم الدينية في ساحة المسجد الأقصى . وفي 30 / 7 / 1980م ، صدر إعلان ضم القدس سياسيا للدولة العبرية ، وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل .
في 28 / 8 / 1981م ، قام موظفو الشؤون الدينية الإسرائيلية بحفر نفق شمال حائط المبكى تحت المسجد الأقصى . وفي 25 / 7 / 1982م تم اكتشاف مخطط أعده ياؤول ليرنر ، أحد أتباع الحاخام المتطرف " مائير كاهانا " قائد حركة كاخ لتدمير قبة الصخرة المشرفة .
· في 10 / 3 / 1983م حاولت كتلة غوش أمونيم اليهودية الإرهابية السيطرة على الأقصى بالقنابل والرشاشات .
· في 8 / 10 / 1990 م ، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب مجزرة بحق المصلين في المسجد الأقصى ، وذلك إثر قيامها بإطلاق النار عليهم في ساحات الأقصى بعد أداء الصلاة ، حيث قتلت حوالي عشرين شخصا وجرحت 150 آخرين .
· في 24 / 9 / 1996م ، قامت سلطات الاحتلال بافتتاح النفق الثالث تحت منطقة الحرم القدسي ، عشية عيد الغفران اليهودي ، ويمتد هذا النفق حوالي 400 متر تحت المجمع العربي الإسلامي ومجاورا لأساسات المسجد الأقصى .
· في 1 / 6 / 2000م ، يفاوض اليهود الفلسطينيين لإعطائهم قرية أبوردس بديلا عن القدس (
[13]).

حريق المسجد الأقصى :
في شهر أغسطس عام 1969م ، حدث حريق المسجد الأقصى ، الذي يعد الحلقة الأشد في مسلسل استهداف المسجد الأقصى ، ومن المهم التوقف عنده بشكل تفصيلي ، لمعرفة حجم الكارثة ، ومدى التآمر اليهودي فيها .
فقد قام شاب استرالي الجنسية ، مسيحي الديانة يدعى " دنيس مايكل روهان" على إحراق المسجد الأقصى في وضح النهار، بسكب مواد حارقة في أماكن متعددة في المسجد : القبة ، منبر صلاح الدين ، السلالم ، وامتدت النيران إلى الأعمدة والمفروشات بسرعة، ولولا مسارعة العرب حول الأقصى بإطفاء الحريق، وحضور سيارت إطفاء من الخليل ورام الله ، لقضى الحريق على المسجد بأكمله. خاصة أن سيارات الإطفاء الإسرائيلية وصلت بعد الحريق بساعة، في حين أن المسجد يقع في وسط المدينة. وعندما وصلوا لم يكن لديهم أجهزة إطفاء حديثة لمكافحة الحرائق ولا المواد الكيميائية المطفئة لهذا النوع من الحرائق وما أكثرها في إسرائيل ! فاستعملوا وسائل الإطفاء العادية وهي خراطيم المياه .
لقد انتشى اليهود سعادة بعد سماعهم نبأ الحريق ، وأسرعوا إلى ارتياد المسجد الأقصى شبانا وفتيات بالملابس الخلاعية ، حيث أخذوا يرقصون ويلتقطون الصور . في حين ارتبكت السلطات اليهودية بادئ الأمر ، حيث ادّعوا أن الحريق ناتج عن تفاعل الأسلاك الكهربائية في المسجد ، وهو ما اتضح زيفه لأن الأسلاك معزولة تماما طبقا لتقارير هندسية ، وأن المسجد به احتياطات فنية ضد كل حريق.
وتبين بعد ذلك حجم المهزلة التي صنعتها إسرائيل ، وكيف أنها صاغت فصولا من هذه الدراما المصنوعة من أجل إيهام العرب أنها بعيدة تماما عن هذا الفعل . فقد صرّح مفتي القدس الشيخ " سعد الدين العلمي " أن السلطات الإسرائيلية أخذت منه بالقوة مفتاح أحد أبواب المسجد ، في فترة سابقة ، وثبت بعد ذلك أن الفاعل " دنيس " دخل المسجد بفتح أحد أبوابه ، كما أن تعدد أمكنة الحريق في المسجد ، يدل على أن هناك أشخاصا آخرين كان مشتركين في الحادث ، وذكر شهود عيان أنهم خمسة وليس واحدا .
وقد اشتدت ثورة العرب في القدس وما حولها ، مما دفع السلطات الإسرائيلية أن تعلن أنها قبضت على الفاعل بعد سويعات من الحادث وكأنها كانت على علم مسبق به . وأعلنت الشرطة أن الفاعل مسيحي من استراليا ، وأنه حضر إلى إسرائيل وأقام بها منذ خمسة أشهر في إحدى المستعمرات وهي مستعمرة "كيبوتس أولبان " التي تبعد أربعة وستين كيلو مترا إلى الشمال من تل أبيب ، وأنه مختل عقليا ، ويعاني من هوس ديني بسبب تأثره بأفكار متشددة من بعض جماعات اليهود وتدعى كنيسة الله ، وكان عمره ثمانية وعشرون عاما وقتئذ ، وقد صرّح والده في استراليا أن ابنه لم يكن على علاقة بأي حزب أو جماعة دينية أو سياسية طيلة حياته . وفي المحاكمة تظاهر " دنيس " بالجنون ، وراح يتحدث عن أشياء خيالية ، وروايات دينية ، وزعم أنه أحرق الأقصى تنفيذا لأمر من الله ، وزعم أنه عضو نظامي في كنيسة الله منذ ثلاث سنوات ، ويؤدي لها عشرة بالمئة من دخله المادي ، وهي ضريبة توراتية ، وراح يسرد روايات طويلة من التوراة عن قبائل إسرائيل العشر الموزعة الآن في العالم ، وغيرها من الأساطير . رغم أن هذا الكلام يضاد ما ذكره السفير الاسترالي عن " دنيس " ، وما ذكره والد دنيس عن ابنه . وقامت هيئة المحكمة بتحويل المتهم إلى أطباء نفسيين إسرائيليين ، فأصدروا تقارير تثبت وجود حالة من الشذوذ النفسي والانحراف في شخصية دنيس (ازدواج شخصيته ) ، مما استدعى وضعه في إحدى المصحات للعلاج ، وجاء حكم المحكمة بأن دنيس غير مذنب ، ويوصى بوضعه في مستشفى للأمراض العقلية (
[14]).
خطط تهويد الأقصى وما حوله :
نتيجة المخططات اليهودية المتتابعة ، ووسط تقاعس عربي إسلامي ، نجحت المخططات اليهودية في تهويد القدس ، ومن خلال الأرقام تظهر النتائج جلية واضحة . ففي العام 1917م وكانت خطط التهويد في بدئها ، كانت نسبة الأراضي التي يملكها العرب في القدس ( 90 % ) ، وأربعة بالمئة لليهود فقط ، وكانت نسبة السكان العرب في المدينة ( 75% ) ، في مقابل ( 25 % ) لليهود ، والمجموع الكلي للسكان ( 40.000 ) نسمة .
أما إحصاء عام 1994م ، فتصل نسبة الأراضي التي يملكها العرب في القدس ( 10 % ) ويحاولون الحفاظ على ( 4 % ) أخرى ، بينما يملكون اليهود النسبة المتبقية ( 86% ) ، وأصبحت نسبة السكان العرب في القدس ( 26 % ) في مقابل ( 74% ) لليهود ، ومجموع سكان القدس كلها ( 587.000 ) نسمة(
[15]).
كما توسع المخطط اليهودي في المشروع الأخير الذي صدّق عليه وزير الدفاع " إسحق مردخاي " منذ سنوات لإقامة القدس الكبرى بالمفهوم الإسرائيلي حيث تصل مساحتها إلى ( 600كم2 ) أو ما يعادل ( 10% ) من مساحة الضفة الغربية كلها، والسعي إلى تهويد المدينة المقدسة كلها ، عبر ربط المستوطنات الواقعة في المنطقة الشرقية وخارج حدود بلدية القدس مع المستوطنات داخل حدود بلدية القدس وبالتالي تحويل القرى العربية إلى معازل محاصرة ، مع إقامة أحزمة من الشوارع والأنفاق لربط هذه المستوطنات ، وحفز اليهود على الإقامة في القدس ، لمواجهة الزيادة العربية الكبيرة ( بسبب كثرة المواليد ) ، حيث يحارب العرب اليهود بسلاح الإنجاب ، وتتوقع الدراسات السكانية أن يكون العرب أغلبية في القدس في حدود العام 2050م ، حيث يشير بحث إسرائيلي أن نسبة نمو السكان اليهود في القدس وصلت ( 140% ) في مقابل ( 257% ) لدى العرب ، وذلك منذ العام 1967م (
[16]).
وازداد الأمر خطورة ، مع الإعلان عن خطة " الحوض المقدس " التي تستهدف جمع المواقع الدينية اليهودية المزعومة في القدس ، والتي لا يمكن التنازل عنها ، في إطار جغرافي واحد ، في مساحة حوالي ( 2.5كم2 ) ومن المقرر إنجازها عام 2010م . كما اعتمدت السياسة اليهودية سياسة قدسية المكان، بهدف الاستيلاء على مواقع تاريخية في المدينة ، وبالذات فيما يطلقون عليه الحوض المقدس ، وتحويلها بحكم القانون إلى أماكن مقدسة يهودية ، وفي إطار هذه السياسة حولت بلدية القدس أكثر من ( 326موقعا ) إلى أماكن مقدسة داخل المدينة (
[17]).
أما سياسة تهويد الأقصى فهي تضم منظومة من السياسات ، نعرض أبرزها:
- سياسة ما فوق سطح الأرض ( ساحات المسجد الأقصى ) :
وتشمل إجراءات منع البناء ،ومنع الترميم إلا بأذونات عبر إجراءات تعجيزية،وصدور قرار مما يسمى بمحكمة العدل العليا بأن ساحة الأقصى تحت السيادة الصهيونية، التخطيط لبناء كنيسين يهوديين في الزاويتين الشمالية: الغربية والشرقية .
-سياسة ما تحت ساحة الأقصى :
فهي من أعلى سياسات التهويد وتيرة ومعظمها يجري في الخفاء ، ومنها : حفر شبكات أنفاق متشعبة يصل طول بعضها إلى ( 600م ) وبعضها يخطط له أن يصل إلى مقار المباني الحكومية داخل المدينة . وبناء كنيس من طابقين في الزاوية الجنوبية الغربية ، وتفريغ الأرض لكشف أساسات الأقصى ، واستخدام المذيبات الكيماوية للتأثير على أساسات المسجد ، وبناء مبنى " قافلة الأجيال " الذي يحوي عدة غرف تتحدث عن التاريخ اليهودي . كما يسعون إلى بناء كنيس غرب ساحة الأقصى على مساحة ( 50م ) . كما قاموا بتركيب عشرات كاميرات المراقبة على أسوار المسجد لمراقبة المصلين ، وتركيب أجهزة خاصة حول الساحات تصدر شحنات كهربائية لتفريق تجمعات المصلين داخل ساحات المسجد (
[18]) .
وكذلك هناك مخطط خطير يراد بالأقصى مستقبلا ويدور في المخططات الآتية ، ويتضمن النظريات الآتية التي يمكن تنفيذ إحداها :
- نظرية الأعمدة العشرة :
وتدعو إلى بناء عشرة أعمدة بعدد الوصايا العشر قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى ، بحيث تكون الأعمدة على ساحة المسجد حاليا ، ومن ثم يقام عليها الهيكل .
- نظرية الشكل العمودي :
وتطالب بإقامة الهيكل قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى بشكل عمودي بحيث يصبح الهيكل أعلى من المسجد مع ساحة المسجد من الداخل .
- نظرية الترانسفير العمراني :
وتقوم هذه النظرية على فكرة حفر مقطع التفافي حول مسجد قبة الصخرة بعمق كبير ، ونقل المسجد كما هو خارج القدس وإقامة الهيكل مكانه .
- نظرية الهيكل الكامل : وهي تدعو إلى هدم الأقصى برمته ، وإنشاء الهيكل مكانه (
[19]).
أما سيناريوهات القدس بوصفها عاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية ، فتدور حول أربعة وهي :
السيناريو الأول : ظهر عام 1995م ، ويدعو إلى تدشين عاصمة للفلسطينيين خارج القدس بمساحة ( 10 ) آلاف دونم ، أما الأقصى والبلدة القديمة فيكونان حيا من أحياء القدس اليهودية ، على أن تدار من قبل مجلس منتخب من الديانات الثلاث ، ويرأس المجلس رئيس البلدية اليهودي ، ونائبه يكون رئيس بلدية القدس العربية المفتوحة .
السيناريو الثاني :
برز عام 1994م ، وجوهره أن القدس مدينة واحدة مفتوحة للجميع ، يرأسها يهودي ، تقسم إلى أحياء تدار في شكل حكم ذاتي ، لكنها تتبع البلدية الكبرى ، أما الأماكن المقدسة بما فيها الأقصى فتدار من قبل الأديان المختلفة .
السيناريو الثالث :
تبلور عام 1995م ، ويدعو إلى إنشاء بلديتين عربية ويهودية ، يتبعان بلدية أعلى ، والأحياء العربية تحصل على شبه استقلال ذاتي ، أما الأماكن المقدسة للمسلمين وخاصة الأقصى فتدار بصورة مشتركة : فلسطينية أردنية يهودية .
السيناريو الرابع :
ظهر عام 2000م ، وطرحه " إيهود باراك " في " كامب ديفيد 2 " ، على الرئيس الراحل ياسر عرفات ، ويقضي أن ما تحت الأقصى يكون لليهود ، وما فوقه يكون للعرب ، على أن ينشأ معبدين يهوديين في ساحة الأقصى في الزاويتين الشمالية الغربية والشمالية الشرقية (
[20]).

وبعد ، هذه هي الصورة المستقبلية التي يخطط لها اليهود في فلسطين ، بينما نحن نكتفي بدور المتلقي أو المستقبل ، ضمن سياسة رد الفعل ، لا الفعل .

[1] ) تهويد فلسطين ، تهويد فلسطين ، إعداد وتحرير : د. إبراهيم أو لُغُد ، ترجمة : د. أسعد رزق ، منشورات : رابطة الاجتماعيين بالكويت ، ومركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، فبراير 1972م ، ص 384 .
[2] ) تهويد فلسطين ، مرجع سابق ، ص383 .
[3] ) راجع المعلومات السابقة في : فلسطين والقدس في التاريخ ، فلسطين والقدس في التاريخ ، إدارة المعلومات والأبحاث ، بوكالة الأنباء الكويتية (كونا ) ، 1408هـ ، 1987م ص159 ،ص160 .
[4] ) حريق المسجد الأقصى ، د. ميشال غريب ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1970م ، ص32 ، نقلا عن جريدة الأخبار القاهرية عددي : 22 ، 25 أغسطس 1969م .
[5] ) جريدة الأنوار اللبنانية ، 26 / 8 / 1969م .
[6] ) تهويد القدس ، م س ، ص393 .
[7] ) جريدة الأنوار . 26 / 8 / 1969م .
[8] ) جريدتا : الجمهورية المصرية ، والفاينشيال تايمز البريطانية ، في 24 أغسطس 1969م
[9] ) عن جريدة لفيغارو الفرنسية ، عدد 18 / 8 / 1967م .
[10] ) عن جريدة نيويورك تايمز 11 / 6 / 1968 م .
[11] ) جرائد : الأهرام ( القاهرية ) ، الحياة البيروتية ، في 24 / 8 / 1969 م .
[12] ) انظر القدس والآثار ، م س .
[13] ) راجع المعلومات و التواريخ المذكورة أعله في كتاب : حاضر العالم الإسلامي ، الآلام والآمال ، د. توفيق الواعي ، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت ، ط1 ، 1421هـ ، 2000م ، ص127 .
[14] ) راجع تفصيلا : حريق المسجد الأقصى ، م س ، ص38 – 45 ، ضمن روايات موثقة عن جرائد عربية وأجنبية ، مثل : المحرر ( بيروت ) ، الغارديان ( بريطانيا ) ، الأهرام (القاهرة) ، لوموند ( باريس ) وغيرها .
[15] ) حاضر العالم الإسلامي ، م س ، ص127 .
[16] ) المشروع الصهيوني لتهويد القدس ، د. خليل التفكجي ، مجلة المجتمع ، الكويت ، العدد 1756 ، يونيو 2006م ( ملف القدس وأربعين عاما في قبضة الأفعى ) ، ص15 .
[17] ) الحوض المقدس : أحدث مخططات السيطرة على القدس ، عبد الرحمن فرحانة ، مجلة المجتمع ، الكويت ، العدد 1756 ، يونيو 2006م ( ملف القدس وأربعين عاما في قبضة الأفعى ) ، ص19 .
[18] ) السابق ، ص20 .
[19] ) السابق ، ص20 .
[20] ) السابق ، ص20 .

قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " لسعد الله ونوس : سحر العولمة وسرابها

قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " لسعد الله ونوس :
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
سحر العولمة وسرابها :قراءة في البنية والتشكيل
تندرج مسرحية " ملحمة السراب " تحت ما يسمى " الرؤية الاستشرافية للمستقبل" ، فهي تمثل شهادة للتاريخ ، إنها ببساطة ، تقدّم قراءة للعولمة في بعدها التطبيقي المجتمعي . وبالنظر إلى تاريخ نشر هذه المسرحية ( 1996م عن دار الآداب في بيروت ) ، نلاحظ أن ونوس كان متوقعا للتغييرات الاجتماعية التي يمكن أن تصيب المجتمع العربي عامة ، والسوري خاصة ، إذا جاء المتعولمون الليبراليون. وبالتالي ، فإن قراءة هذه المسرحية تتم في سياق عربي أشمل . خاصة أن معطيات المسرحية الجمالية والدلالية ، كانت ضمن إطار قرية ، غير محددة الوجود الجغرافي ، وإنما هي قرية مثل آلاف القرى في عالمنا العربي ، فيها البائسون الفقراء وهم كثرة ، والغني المترف وهم قلة ، وبين هذا وذاك ، يتعايش المجتمع الإنساني بخيره وشره ، فرحه وسعادته .
فكرة المسرحية بسيطة ، وربما تكون نمطية ، " عبود " رجل غني مهاجر عن وطنه ، تعب كثيرا من أجل تكوين ثروة ضخمة في الغرب ، ولا يعرف قريته إلا بزيارات سنوية ، يتزوج فيها إحدى صبايا القرية ، يستمتع بها شهورا ، ثم يطلقها ويغادر ، بعدما جدد نفسيته ، واستمتع بصحبة أهل قرية من المتزلفين ، فيما يحتقره أهل القرية في أعماقهم ، ويصل لعلمه هذا . إلا أن " عبود" سأم من حياته تلك ، وطمح إلى التغيير ، فاقترح خادمه " الشيطاني " تغييرا من طراز آخر ، أن يعود للقرية ، بمال وفير ، فينشئ منتجعات سياحية ومحلات سوبر ماركت ، ويشتري الأرض بعشرة أضعاف ثمنها . ويحدث تأثيرا كبيرا في القرية . تستهل المسرحية بحوار خاص بين الثري عبود المسن ، وخادمه ، حيث يعاني " عبود " من السأم ، فيقترح عليه خادمه أن يذهب إلى قريته ، ويقضي عطلته فيها ، ويتزوج هناك بصبية صغيرة ، يقضي معها أجازته ، ثم يطلقها ، ويعطيها بعض المال . ولكن الثري يرى شيئا آخر ، أن يعود فيستثمر أمواله ، وينشر الخير في قريته ، بمنظور رجل الأعمال . مشاهد المسرحية قصيرة ، حيث يكون تتنقل المشاهد فنرى في الفصول الثلاثة للمسرحية : القرية قبل الثروة ، والقرية أثناء الثروة ، والقرية بعد الثروة ، واكتشاف الأكذوبة الكبرى ، حيث تصبح القرية أشبه بسوبر ماركت كبير ، فيها تجارة واسعة ، ومشروعات سياحية كبيرة وتأخذ مساحة كبيرة على الخريطة الإعلامية الرسمية ، وفي خلال ذلك تتغير النفوس ، وتتبدل القلوب ، ويسود منطق المادة . وتنتهي المسرحية بكارثة ، حيث يهرب الغني عبود إلى الخارج ، بعدما باع مشروعاته بثمن كبير لعدد من المسؤولين الحكوميين ، ويأخذ معه الصبية الجميلة " رباب " ، التي فاز بها من أبيها المغني الحالم ، ولكن حلمه تحطم وتهاوى الرجل وراء بريق المال .
نستطيع أن نقرأ هذه المسرحية وفق تاريخ صدورها ( 1996 ) ، حيث تقدم قراءة المؤلف الضمني للعولمة التي سادت العالم ، وما استتبعها من تمدد الفكر الليبرالي في العالم ضمن ما يسمى بنظرية نهاية التاريخ ، التي حسمت لصالح الرأسمالية ، وقد تم الترويج لهذه النظرية وأبرز منظروها : صموئيل هننتجتون ، وفوكوياما ، وكلاهما أمريكيان . المسرحية تنطلق من زاوية استشراف المستقبل ، فالمؤلف الضمني يرى أن ما تطرحه العولمة ، إنما هو تمدد اقتصادي فحسب ، أما ما يقال عن سيادة حقوق الإنسان ، وقيم الديمقراطية ، فهي مجرد شعارات لزوم الترويج ، وبعبارة أخرى : فإن العولمة ما هي إلا احتلال للشعوب في إطار جديد ، عبر الشراكات الدولية ، واستغلال فتح الحدود وسهولة انتقال رؤوس الأموال من أجل نهب الثروات الوطنية . من المعلوم أن نظرية نهاية التاريخ عُدّت نتيجةً لسقوط المنظومة الاشتراكية ، بانهيار الاتحاد السوفيتي العام 1990م، وقد ظل العالم خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين يردد هذه النظرية ، وتضاعف الاهتمام بها ، عقب أحداث 11 سبتمبر ، ولكن صدق عليها ما يصدق على أي منتج بشري من قصور ونقص ، وسرعان ما ظهر زيفها ، بما تم من حروب في العراق وأفغانستان والصومال ، ومن قبل البوسنة والهرسك ، وظهرت أنها كانت قناعا مثل أقنعة أخرى ، ارتداها الغرب ، في إطار سياساته الرامية لاستغلال الشعوب ، هذا على المستوى السياسي والعسكري ، فنحن بالطبع لا نتعامل مع الغرب بوصفه كلا واحدا ، وإنما العولمة أحد وجوهه الشرسة .
يأتي الإسهاب السابق ، ضمن التأويل الدلالي للمسرحية ، فلا يمكن الفصل بينها وبين المعطيات الدولية . ولكن المؤلف تعامل مع العولمة بصياغة مميزة ، أكسبت المضمون التقليدي ثوبا جديدا ، فلم يعد الأمر مجرد فتنة المال ، على الأفراد والمجتمع ، على نحو ما وجدنا في أدب حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين في مصر فيما يسمى " حقبة الانفتاح الاقتصادي " بأثريائه وقيمه ، حيث رصدَ جوانب من التغييرات الاجتماعية التي قلبت الموازين في بنية الشعب المصري الاجتماعية والثقافية ، وكانت الرؤية المهيمنة وقتئذ – في محاورها العامة – رصد السفه المالي ، وتغير النفوس ، وتخريب الاقتصاد الوطني . وهي نفس المظاهر التي نرصدها في " ملحمة السراب " ، إلا أن الفرق بينها وبين أدب الانفتاح الاقتصادي ، أن الأول كان انفتاحا استهلاكيا تجاريا ، من الداخل ، أما العولمة فتعني قدوم رأس المال الأجنبي إلى بلادنا للاستثمار ، ولكن تميز ملحمة السراب ، جاء من أن المال الأجنبي لم يأت في هيئة مستثمرين أجانب ، بل أحد أبناء الوطن المهاجرين الذين كونوا ثروات بطريقة غير مشروعة ، بعدما ضحوا بمبادئهم ، وحطموا قلوبهم .
العولمة بأذرع وطنية :
حيث قدم " عبود " بماله المتكون في الغرب ، مضحيا بمبادئ كثيرة ، في هذا يحاور خادمه : " ألا تعرف ماذا يوجد مكان القلب في صدري ؟ ... هنا يوجد صخر لا قلب " ( ص7 ، 8 ) . وسبب العودة لا يأتي من انتمائه الوطني ، بقدر ما هو استفادة من الفرص الاستثمارية في الوطن ، واستغلال قوانين التيسير التي قدمتها دول العالم النامي من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية ، يقول عبود : " لست عاطفيا إلى هذا الحد ، ولكن أعتقد أن في البلد تسهيلات يصعب أن نجدها في بلد لا نعرفه " ( ص7 ) . ذلك أنه يواجه ركودا في حركة أمواله ونموها ، يقول : " بدأ الركود يقرض أموالنا ، مثل فئران جائعة ، لم أعد أجد تسلية لا في المكتب ، ولا في البورصة " ( ص6 ) . والتسلية في النمو السريع للمال ، على طريقة الأموال الساخنة Hot Money التي لا تقيم قواعد اقتصادية وطنية ، بقدر ما تسعى للكسب السريع ، عبر التجارة والخدمات والسياحة . وهذا ما حدث عندما عاد عبود إلى قريته ، حيث أقام مشروعات سياحية ، وتجارية ، أغرقت القرية بالبضائع ، وجذبت ما في أيدي الناس من أموال ، ثم هرب عبود للخارج ، يقول الخادم الوفي ( وهو بمثابة المستشار والسكرتير لعبود ) : " نعم ، غدا ( السفر أو الهروب بالمال ) ، وكل شيء جاهز ، بيع المجمّع للمسؤول الكبير ، ووزّعت الأراضي مقاسم لبناء فيلات وشاليهات للاستجمام ، وحوّلت الأموال إلى الخارج ، ولم يبق إلا أن نودع شركاءنا ، ونصعد الطائرة " ( ص152 ) .
فالعولمة مالية ، والمال لا يعرف الانتماء لأرض أو لدين ، يقول الخادم مذكرا سيده الذي تعاطف بعض الشيء مع قومه : " ما الذي يجعلك تتذكر الآن أنهم أهلك وقومك !؟ أما حذرتك من الانزلاق إلى التعاطف ؟ إن مالك هو وطنك ، وإن الأعمال هي أهلك ، ولا مجال في عالمنا الزجاجي لخفقان القلب ، وتهدج العواطف " ( ص151 ) .
ومن هنا اتضحت الصورة ؛ فإن العولمة احتلال جديد ، اقتصادي الطابع ، عميق الهيمنة ، لأنه يسيطر على الثروة الوطنية ، ويستعبد الناس اقتصاديا ، ويجعلهم استهلاكيي الطابع ، يدورون في فراغ حلقة من المتطلبات الحياتية التي لا تنتهي ، بل تزداد يوما بعد يوم .
ووسيلة هذا الاحتلال أبناء الوطن : رجال الأعمال الذين سافروا إلى الغرب ، وتطبعوا بطابعه المادي وعادوا لا يريدون من وطنهم إلا المنفعة ، وعبر أهل السياسة في الوطن نفسه الذين يسهلون الأمور الروتينية ، ويصدرون القوانين المفصلة حسب مقاس المستثمر ، ومن ثم يشاركونه عوائد استثماراته ، ويتآمرون على خروجه .
شخصيات المسرحية :
تكاد لا توجد شخصية محورية في المسرحية أو ما يسمى البطل المحوري ، بقدر ما نجد شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية ، ولا يوجد فرق بين أدوارهم إلا في نسبة الاستحواذ المشهدي على وجودهم ، ولكنهم في المجمل يعكسون حركة واحدة في الفضاء والزمن . وهذه نتيجة طبيعية للرؤية في النص ، فالبطل ليس شخصا ، وإنما المال ، والشخصيات البشرية يعكسون تعاملهم مع المال : قبل الثراء وبعده ، ومن ثم نحن أمام محور هلامي نرى آثاره ولا نكاد نلمسه ، نكتوي بناره ولا نستطيع دفعه . شخصيات القرية متنوعة : المغني الذي لا يهتم إلا الغناء العذب ، إلا أنه سرعان ما يسقط مع إغراء عبود له بالشهرة وطباعة الشرائط ، والغناء في حفلات المسؤولين ، وكذلك زوجته الشبقة للمال " فضة " التي تضاجع – بالمال – أحد رجال القرية إلا أنها تهجر العشيق ، وتنتابها حالة من القرف المادي ، فتلتزم الدين والحجاب ، والعزلة ، وهنا نرى كيف أن اللجوء للدين كان مهربا من الطغيان المادي ، ومع امرأة كانت ترى المال حياتها ، وتحرض ابنتها على الزواج من ثري .
أما الابنة " رباب " مطمح " عبود " الثري ، فلها علاقة رومانسية مع شاب مثقف ، يساري الفكر " بسام " . وهو يمثل موقف المؤلف الضمني من العولمة ، أو بالأدق الرؤية الفكرية المضادة للعولمة ، حيث تقول له " رباب " :" أحببت كلامك عن المساواة بين الرجل والمرأة ، والعمل المشترك ضد الأفكار البالية ، والتقاليد المتخلفة ، أعجبني تقشفك وحديثك عن عش زوجيّ ، مفروش بالبسط اليدوية والطراريح .وموقدة الحطب " ( ص49 ، 50 ) .
هنا كل ملامح الفكر اليساري : ضد البذخ المالي ، ضد التقاليد الاجتماعية الجامدة ، يسعى لفكر تقدمي .
كما نجد شخصية التاجر وزوجته يعيشان حبا مشتركا ، في محل تجارة بسيط وحينما يخضع التاجر لرغبات " عبود " ، ينتهي الحب بينه وبين زوجته ، بسبب الإغراق في المال . أحد نواتج المال على العاطفة ، وهذا ما حدث أيضا بين رباب وبسام ، فقد غيرت الصبية رأيها ، وسعت للزواج من عبود طمعا ، وإنقاذا لأبيها من ديون حاصرته ، بعدما تورط في إصدار شرائط كاسيت .
وأيضا شخصية عمدة القرية ، الذي يعادل رئيس الحكومة ، وسعيه الدائم لإرضاء عبود ، فيبيع أرضه له ، ويكون سندا للثري في أعماله ، وتطويع رجال القرية ، كما نجد شيخ المسجد ، وكيف ينجرف مع الموجة ، ويبرر للناس ما يحدث من تجاوزات بحجة أن ولي الأمر أدرى بمصالح شعبه .
ومن بين الشخصيات تبرز شخصية " مريم " الزرقاء ، التي تمثل رمزا تراثيا يعيدنا إلى شخصية زرقاء اليمامة ، وقد جاء اسمها موحيا بهذا ، وأشار السارد في الهامش إلى طبيعة شخصيتها ، وأنها تبصر المستقبل ، وهي تمثل الوجه الآخر للرؤية الضمنية ، مع بسام الذي ظل ثابتا ولم يتحول ، أما الزرقاء ، فقد تنبأت بأن " عبود " وخادمه سيهربان ومعهما الصبية الجميلة " رباب " ، وهذا ما لم يصدقه أهل القرية . وبذلك تكتمل الرؤية المنبعثة من أعماق التراث .
تعيش مريم الزرقاء ( الضريرة ) في بيتها الريفي البسيط ، ولها ابنان : أمين ، ومروان التبان ، وقد جاء مروان من العاصمة ، ملحيا على أخيه ببيع الأرض التي ورثاها ، لعبود حتى يستعين بثمنها على نفقات معيشته في العاصمة ، بينما يأبى أمين ، ويرى أن الأرض عرض لهما ، ويشتبك الأخوان في جدال ، ينتهي بقتل مروان لأمين ، بمسدسه دون قصد ، فيما تبصر الزرقاء ساعتها .
إنه شخصيات تعبر عن المجتمع بجميع فئاته وطبقاته ومهنه ، وترصد المشاهد أبعاد التغيرات التي أصابت هؤلاء .
بنية الفصول والمشاهد :
توزعت المسرحية على أربعة فصول ، يمثل كل فصل مرحلة زمنية في حياة القرية ؛ الأول يكون تمهيدا للشخصيات والأحداث قبل الثروة ، والثاني : تداعيات وجود عبود في القرية والجدل الذي دار حول هذه الثروة الضخمة التي أصابت القرية ، وأربكت العقول وأضلت القلوب ، والثالث والرباع : القرية تراجع نفسها بعدما اكتوت بنيران المادة : نزاعات بين الناس ، ولهث وراء الثروة ، ووصولهم إلى نقطة اللاعودة للفقر ، وعدم امتلاك الغنى بالمعنى الحقيقي ، فيعيشون في سراب ، بينما يهرب عبود إلى الخارج ، ويتركهم غرقى في الديون .
ونصاب بالدهشة من تعمد السارد عنونة فصوله ؛ ويشير في الهامش للفصل الأول منبها على ذلك بقول :" إن عناوين الفصول هي جزء من نسيج العمل ، ولذا فإني أفترض إبرزاها في العرض ، سواء عبر أداء الممثل ، أو عبر لافتة مكتوبة تقدّم الفصل ، أو تكون جزءا من ديكور مشاهده المتوالية " ( ص5 ) ، فالسارد واع بأهمية الإشارة للعنونة الفصلية ، عند العرض . فهي جزء أساس ومكمل لدلالة المسرحية ، فالفصل الأول : " عودة عبود الغاوي الثالثة من المهجر " (ص5 ) ، والفصل الثاني : " بيع الأراضي يثير في القرية هيجانات وصدامات ... قابيل يقتل أخاه هابيل " ( ص35 ) ، والفصل الثالث : " القرية هشة .. ، وعاصفة " الجديد " متوحشة تحوّلات وتحولات .. ،( ص72 ) ، والفصل الرابع: " مالا عين رأت ولا أذن سمعت " ( ص105 ) .
وعند التأمل في هذه العناوين نلاحظ أنها : ليست عنونة بالمعنى المفهوم ، فليست موجزة الأسلوب ، بل عبارة عن جملة أو عدة جمل . كما أنها جمل : سردية الطابع ، بمعنى أنها تساهم في اكتمال مضمون النص ، ففي عنوان الفصل الأول نرى ما يسمى " الاستشراف " وهو : تقديم حديث مستقبلي للمتلقي ، يكمل الرؤية زمنيا وعلى مستوى الشخصيات ، فيلج المتلقي النص ولديه توقع مسبق بما حدث من قبل ( فعل عودة الغني للقرية مرتين سابقتين ) ، وأن ما هو قادم ( المرة الثالثة ) ، فيتيهأ وجدانيا ومعرفيا لها . ونفس الأمر ينصرف إلى سائر الفصول .
كما أن الديكور الموصوف في العمل يتجاوز الوصف الحسي الذي يمكن تجسيده إلى الواقعية السحرية ( إن جاز التعبير ) ، وهذا يتطلب مصمم سينوجرافيا مرهف الحس ، لينفذ هذا التصور الديكوري . ففي فاتحة الديكورات في المشهد الأول من الفصل الأول :
" ضوء باهر البياض ، يمتص حدود الموجودات وظلالها . كما يحول الوجوه إلى بقع ، تتماوج بين السواد والبريق . من الصعب تمييز الملامح وكذلك تفاصيل المكان . ولعل الشيء الوحيد الذي يستوقف الانتباه هو مزهرية سوداء فيها وردة ضخمة صفراء اللون . ولكن الذبول يجعل الصفرة تنحلّ إلى ألوان بنية ، تتدرج حتى الاهتراء ، تتساقط أوراق الزهرة بإيقاع غريب ، وصوت يشبه رنين جرس زجاجي صغير . عبود الغاوي ، والخادم " ( ص6 )
فهذا ليس وصفا لديكور مجسد ، إنما وصف لحالة : مكانية ، زمانية ، نفسية ، لونية ، صوتية ، متداخلة إلى درجة الامتزاج . وهذا يشي إلى أن هذ النص يجمع الأدبية والتمثيلية ، في رهافة واستشفاف . ولكن هذا غير معمم في ديكورات المسرحية ، وإنما الوصف الديكوري ينقسم إلى قسمين : قسم يعبر عن حالة المكانية السحرية ( وهي تلازم عبود وخادمه تقريبا ) ، وقسمك يعبر عن الواقع الحي المجسم ، وهي تلازم أهل القرية جميعهم . وهذا ، إن دل يدل على أننا أمام حالة من الرؤية المستقبلية التي تقع ما بين الخيال والواقع ، الظل والضوء ، السحر والحقيقة ، بين حالة التآمر الدولي / العولمي / الخفائي / المقنع ،ويعبر عنها : عبود وخادمه ، وبين حالة البساطة / العفوية / الفقر / الغنى / الحقيقة ، في القرية وأهلها .
كما أن المشاهد المسرحية ، عديدة ، متنوعة المكان ، مختلفة المكان ، وهذا يستوجب متطلبات خاصة في التجهيز المسرحي ، فإننا نجد في الفصل الواحد مشاهد وديكورات متعددة بتعدد المشاهد ، كل مشهد له ديكوره الخاص . وعلى سبيل المثال : الفصل الثاني ، يشمل سبعة مشاهد ، بسبعة ديكورات مختلفة ، معبرة عن مواضع مختلفة ، تصور جميعها : حالات أبناء القرية لحظة تلقيهم نبأ الثروة المتدفقة لشراء الأراضي والعقارات ، فنرى : التاجر يوسف وزوجته في محل البقالة البسيط ( المشهد الأول ) ، وفي المشهد الثاني : فضة زوجة المطرب " ياسين " عشيقها في مزرعة بين الأشجار ، وفي المشهد الثالث : بيت ياسين وزوجته وابنته رباب ، وفي المشهد الرابع : مصطبة أمام بيت المختار ( العمدة ) يغطيها حصير وبضعة مساند ، وفي المشهد الخامس : بيت محمد القاسم أديب الناطور ، وفي المشهد السادس : عبود الغاوي وخادمه في حالتهما السحرية المكانية ، وفي المشهد السابع : بيت أمين التبان وأمه مريم الزرقاء .
هذا التنوع المشهد يعبر عن : تنوع الشخصيات ، أمكنة القرية ، الأزمنة ، الطبقات الاجتماعية والفكرية ، فكأننا أمام كاميرا مسرحية متنقلة .
أسلوبية الحوار :
إننا نجد نصا أدبيا عالي المستوى ؛ كُتِب بأسلوب شاعري ، وكتب بوصفه نصا أدبيا أولا ، ومسرحيا ثانيا ، وهذا ما وضح في أمور عدة .
فالحوار ليس حوارا معبرا عن الشخصيات ، مساعدا في بناء الأحداث وتصاعدها ، مكملا لرؤيتنا عن الشخصية ، وإنما حوار مرهف الكلمات ، يقف في المنطقة الوسطى بين الواقعية التي تنقل الأحداث ، والوقائع ، وتدني المتلقي من الحياة المعاشة للشخصيات ، في تميز أسلوبي بديع . وبعبارة أدق : فإن أسلوبية الحوار فصيحة التراكيب ، بليغتها ، تنتقي اللفظ داني القطوف لفهم وتسمو به إلى أجواء المسرح ، حتى لو كان مطعما بمفردات عامية . ففي حوار بين التاجر " يوسف العلوني " ،وزوجته " فاطمة " و" خلف " صديقه :
خلف : ها.. ها .. أتذكرين يا فاطمة آخر مرسح عرفته هذه الضيعة ؟ كان ذلك يوم أصر ابن البدويّ أن يقيم عرسه حسب العادات القديمة ، في تلك الليلة .. ، أوقدنا النار في الميدان ، وعلى دقات الطبل والمزمار ، انعقدت حلقة الدبكة ، تصوري .. أذكر ها ، وكأنه حدث البارحة . كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها .
يوسف :(مقاطعا ) ما هذا ! قلت لك دعنا من الرغي ، وادخل في المفيد .
خلف : بالله عليك يا فاطمة .. ، هل يسمّي كلامي وتلك الذكريات رغيا إلا عديم الإحساس ؟ طبعا أنت لا تذكر شيئا عن تلك الليلة ، لأنك كنت مشغولا بالبيع وعدّ المصاري . أما فاطمة فكانت تقود الرقص كأنها خيال ، ووجهها يقمره لفح النار ، وجسدها يتثنى كالعجين مع إيقاع الطبل والمزمار . ( ص129 )
إننا أمام لوحة حوارية ، تصف مشهد العرس ، مسترجعة إياه ، تطعم الحوار بالصورة الحسية التمثيلية ، حركية الطابع : " كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها " ، "فكانت تقود الرقص كأنها خيال " ، " ووجهها يقمره لفح النار " ، " جسدها يتثنى كالعجين " .
لم تبسط الصورة مفهوما في الحوار ، أو معنى غامض ، بل يتعمد السارد أن يسمو بالحوار سموا بلاغيا ، ففاطمة ترقص ، مفهوم هذا ، كأنها " خيال " صورة بها من المبالغة الحركية ما يضفي المزيد من التصور البصري والخيالي على طبيعة رقص فاطمة ، أي أن الصورة تعطي مبالغة معنوية ، أكثر من كونها تجسد المعنى وتبسّطه . ونفس الأمر في : " يقمّره لفح النار " دلالة حمرة الوجه وتوهجه بفعل الرقص .
كما تطعم الأسلوب بألفاظ عامية أو فصيحة تلامس العامية المستخدمة ، مما ساعد على تفصيحها ضمن الحوار مثل : " المصاري ، الدبكة ، رغيا " .

السبت، 17 أبريل 2010

د. مصطفى عطية يشارك في مؤتمر الفيوم الأدبي عن المكان في شعر العامية والرواية

ينظم فرع ثقافة الفيوم التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة، مؤتمر أدباء الفيوم لليوم الواحد والذى يحمل هذا العام عنوان "ثقافة المكان وأثر البيئة على الإبداع".وتبدأ فعاليات المؤتمر فى الثانية عشر ظهر الأحد 18 أبريل الجارى بقصر ثقافة الفيوم، ويحضر الافتتاح الدكتور أحمد مجاهد، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والدكتور جلال مصطفى سعيد محافظ الفيوم وأحمد زحام رئيس إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافى، ويرأس المؤتمر الأديب عبده جبير، ويتولى أمانته محمد جمال.وتتضمن الجلسة الافتتاحية للمؤتمر مناقشة عدة أبحاث هى "رواية يوسف إدريس" للكاتبة فريدة النقاش و"متصل الزمان والمكان فى رواية نجيب محفوظ" للدكتور حسين حمودة، و"المكان فى القصة القصيرة المعاصرة" للدكتور سامى سليمان".أما الجلسة الثانية فتضم مجموعة من الأبحاث هى "الرواية فى الفيوم" للروائى محمد جبريل ومحمد مصطفى، و"شعر العامية فى الفيوم" للباحث د . مصطفى عطية ويدير الجلسة أحمد طوسون.كما تقام جلسة للشهادات تتضمن شهادة بعنوان "مربط الفرس أنا والفيوم" للأديب عبده جبير، و"الفيوم حين يكون المكان بشراً" لعماد عبد اللطيف، و"الفيوم الطاردة القابلة" لعويس معوض ويدير هذه الجلسة د. أحمد عبد المنصور.كما تقام على هامش المؤتمر أمسية شعرية للشعراء عبد الكريم عبد الحميد، محمد حسنى، محمد ربيع، سيد كامل، مصطفى عبد الباقى، وفى ختام المؤتمر سيتم تكريم كل من الدكتور جلال مصطفى سعيد، والفنان على بدرخان والروائى حسين عبد العليم والأديب الراحل سيد معوض، ود. خليل عبد العال عميد كلية دار العلوم بالفيوم، والدكتور إبراهيم صقر عميد كلية الآداب بالفيوم ورئيس قسم الإعلام.
نقلا عن اليوم السابع

قراءة في مسرحية " أمطار رمادية " شحاتة إبراهيم

قراءة نقدية في مسرحية : أمطار رمادية للدكتور مصطفى عطية :
عندما تتوهج الحياة لتصنع فنا ، نص ينتمي للمسرح الإيجابي
للشاعر : شحاتة إبراهيم
( نشرت هذه الدراسة في جريدة الراي الكويتية ، على هذا الرابط : http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=161183&searchText=شحاتة%20إبراهيم
وأيضا في جريدة مسرحنا المصرية بتاريخ 20 / 3/2010 )
استعان المخرج(أحد شخوص مسرحية أمطار رمادية ) بالمرأة لكى توقع يوسف بطل المسرحية فى غرامها وبذلك يدفعه الحب إلى التخلى عن التطرف ....واستعان رجال أمن الدولة بامرأة جميلة مثقفة لاختراق يوسف وإيقاعه فى حبائلها وبذلك تتشوه صورته عند مريديه فينبذوه وينبذهم وبذلك يتخلى عن التطرف .....وهو ما يثير الجدل حول رؤية الكاتب الدكتور مصطفى عطيه للمرأة هل هى فقط مجرد ( أداة ) للمتعة أو لاختراق الآخرين أمنيا ...الإجابة ربما تكون (لا ) نظراً لحيوية دور المرأة فى هذه المسرحية وعدم الوقوف بها عند نمط معين بل يمكن القول أن المرأة تجسدت فى العديد من الأدوار المتباينة : فهى الفنانة دلال الباحثة دوما عن الشهرة والمال،، وهى والدة فوزى الارستقراطية العتيدة،،،وهى ( منى ) المرأة غريبة الأطوار ،، وهى أم زكى المنغمسة مع فوزى فى لياليه وسهراته ... فهى إذن نماذج كثيرة استطاع المؤلف الإمساك بخيوطها بإحكام ولم يقف فيها عند نمط واحد للمرأة.
وتظل شخصية فوزى أبو طالب بطل المسرحية والذى اجتهد المؤلف كثيرا فى رسم ملامح شخصيته نفسيا وثقافيا واجتماعيا ،، تظل شخصية اشكالية على أكثر من صعيد ،، فبرغم انتمائه إلى عائلة اقطاعية ارستقراطيه إلا أنه ناصرى الهوى مساند للثورة ،،ورغم أن الثورة أخذت الكثير من أملاكهم ووزعتها على الفلاحين إلا أنه لا يزال محبا لعبد الناصر والناصرية ويرى فيها تحريرا للإنسان وتجديدا للفن بربطه بالواقع الناهض ،، ثم وفى تطورات أخرى يكفر بالثورة وبهؤلاء الثوار المستبدين بل ويكفر بالوطن كله وبالعمل السياسى والجماعى وينحاز لذاته فقط ....................
فمن الواضح أننا أمام مؤلف جرىء لا يقف أمام تطور أفكار ومشاعر شخصيات مسرحيته ولا يحد من جموحها بل يترك لهم العنان كاملا دون أى خوف من هروب الخيوط الأساسية للمسرحية من يديه وهى جرأة لافتة لمؤلف يكتب عمله المسرحى الأول ...

وأعترف أننى لم أتحمس كثيرا ً لخوض مصطفى عطية لتجربة كتابة المسرحية ... وعندما كتب عمله الأول ( أمطار رمادية ) وأعطانى نسخة منه كنت أخمن ـ ولى كل الحق ـ بأنه سيكون عملا فاشلا .... لذا فقد استقبلته بقدر غير قليل من اللامبالاة لسبب بسيط جدا وهو أننى عرفت مصطفى عطية ناقدا متمكنا وعرفته روائيا وقصصيا له العديد من الأعمال واعتبرت اندفاعه إلى فن أدبى جديد عليه يعتبر مغامرة بكل معانى الكلمة تشتت الجهد ولاتحقق أى إنجاز منتظر ولكن رغم كل ذلك تظل الأحكام المسبقة ــ من وجهة نظرى ـ خطأ يصل إلى حد الخطيئة وقسوة غير مبررة فى كثير من الأحيان ,,,لذا كان الطبيعى أن أقرأ المسرحية وأتعرف عليها
...لكن للحقيقة أيضا فقد فاجأتنى المسرحية كثيرا عندما قرأتها وربما أدهشنى مستواها الذى يشير إلى كاتب مسرحى مجتهد ومؤهل لإنجاز أعمال مسرحية أخرى قادمة أكثر نضجا وأعمق رؤية ........... ...
.............................
وبنظرى يظل الحوار هو البطل الأول لهذا العمل فهو يتميز بالحيوية والعمق أيضا.....وهوهنا ليس مجرد جمل تقال على لسان الشخوص لملء القالب الحوارى ولكن كل جملة فى الحوار صيغت بعناية واستطاع الحوار أن يكون بطلا هنا بطزاجته وبقدرته على تحمل هذا الكم من القضايل السياسية والاجتماعية والثقافية التى سرت فى نسيجه ولكنه لم يترهل تحتها ولم يفقد إيقاعه ولا حيويته بل ظل طوال المسرحية علامة بادية على تمكن الكاتب فى إدارة حواره وعلى حماسه الشديد للقضايا المطروحة لذا جاء مستوى حواره بمستوى حماس المؤلف لأفكاره ورغبته فى عرضها والدفاع عنها فبدا الحوار دائما فى حالة توهج ولمعان ........
....................
المسرحية تعبر فى وجوه من وجوه تميزها أيضا فى كونها تنتمى للمسرح الإيجابى وتبتعد إلى حد كبير عن مسرح الإسفاف أو المسرح الاستهلاكى ففكرتها الأساسية تقوم على انتقاد الكثير من الممارسات الخاطئة لبعض مؤسسات الدولة المهمة كالثقافة وأمن الدولة،، وكذلك تضع ضوءا عميقا على فساد مجموعة كبيرة من المثقفين وانتهازيتهم واحتيالهم كل الوسائل للوصول إلى الشهرة أو الأضواء .. فهم يقبلون أحيانا المهانة.. كما حدث مع أحد أبطال المسرحية وهو الزنكلونى( مؤلف ) الذى كان يعمل خادما عند المخرج المشهور السيد رائف طمعا فى أن يسند إليه يوما كتابة عمل ما ..... وفوزى( مخرج ) يوافق على إخراج مسرحية هابطة داخل أحد الأحزاب طلبا للمال لاغير...وهى مسرحية فاقدة للقيمة الفنية والأخلاقية كونها ممولة وموجهة من طائفة من الشعب لتشويه طائفة أخرى من أبناء الشعب وهو ما لا يليق بالفنان الملتزم أن يقبله ....وكذلك منيرة (المثقفة) التى اختارها الأمن للإيقاع بيوسف وقبلت هى ذلك واستطاعت تنفيذ هذا المخطط وتحقيق الهدف المرجو منه ...و(الممثلة المشهورة) دلال قبلت العمل بمسرحية بالأقاليم بسبب المال فقط رغم أنها تعرف أنها ليست عملا فنيا يضيف إليها أى شىء بل على العكس تماما ......ونجدها تقول فى موقف آخر( وأنا قبلت دفع الثمن من سعادتى وراحتى وسمعتى ، وكان المقابل هو المال والشهرة ) ......وكأن الكاتب حريص طوال الوقت على إلقاء ضوء عريض وقاس على سلبية بعض المثقفين وانتهازيتهم الواضحة وحصدهم لثمار انبطاحهم وتنازلهم ألا وهو تحقيق قدر من الانتشار والذيوع ما كان يتحقق لو كانت شخصياتهم مستقلة وسوية
............ ........
لكن تبقى بعض الملاحظات العابرة التى لا تقلل بحال من تميز هذا العمل الجيد ....فقد حدثت سقطة فنية ملموسة من الواجب الإشارة اليها ...ففكرة مسرحية داخل المسرحية أو مشهد مسرحى داخل المشهد المسرحى أداة
فنية راقية ومفيدة فى نجاح العمل الفنى بشرط وجود الوعى بالفروق الجوهرية بين المشهدين عند الكاتب وهو ما أظنه أن الكاتب هنا لم ينتبه له جيدا...فأحد الأحزاب التى تدعى المعارضة والذى هو صنيعة الحزب الحاكم تلقى دعما من الحزب لانتاج مسرحية تقدم دعاية مغرضة ضد الجماعات الدينية ..وطبعا سنتخيل أن المسرحية الموعودة هذه سوف تبث سموما وتغرس أفكارا عند المتفرجين هدفها تشويه هذه الفئات المعارضة ولكن إذا بالمسرحية ـ فى غياب اليقظة الفنية من المؤلف الأصلى مصطفى عطية ـ إذا بها تحتوى أحد المشاهد يجتمع فيه ضباط الأمن ويتحدثون عن خططهم ونجاحاتهم فى تشويه هذه الجماعات وحيلهم الناجحة لبث الاكاذيب عنهم ...هنا الخطأ الفنى إذ من غير المعقول أن تنتج الدولة مسرحية تتحدث فيها عن مكرها ببعض بنيها وتلفيقها التهم لهم ومحاولتها تشويه بعضهم.....فإحساس الكاتب بالظلم الذى يتعرض له البعض على يد رجال الأمن دفعه لتعرية هذا فى مشهد مسرحى ليدين به هذه الممارسات... لكن توظيف ذلك داخل المسرحية كان بدون وعى كاف.. وليس فى سياقه الفنى الصحيح.
والملاحظة الثانية هى ان البطل الاساسى للمسرحية فوزى أبو طالب يتشابه فى كثير من ملامحه ومواقفه وأفكاره مع احدى الشخصيات الشهيرة هنا .... وهذا وارد إذا كانت الحنكة الفنية ناضجة بحيث يكون هذا التماس مع تلك الشخصية الحقيقية مبررا فنيا وغير فج أو مفضوح خاصة لو اعتمد على المزج بين الخيالى والواقعى فيحمى بطله من أن يصبح ظلا أو صورة من أحد ...لكن الذى حدث هنا أن العمل المسرحى استغرق كثيرا فى الاقتراب من هذه الشخصية لدرجة أنه ما أسهل أن نقول أنه يقصد فلانا تحديدا ولا أظن أن الفن يقبل أن يبدو وكأنه صورة فوتوغرافية من الواقع لأن ذلك فنيا خطأ.... وهنا تحديدا سيكون أخلاقيا خطأ أيضا صحيح أن حسن النية موجود ومتوفر بكل تأكيد والحماس لدى الكاتب هو دافعه الأساس ولكن يظل علينا أيضا أن نشير أو ننبه إلى ما خفى بعض الشىء على الكاتب....
إننا أمام عمل فنى راق به الكثير من الإيجابيات والنذر اليسير من السلبيات ربما يبررها له كونها التجربة الأولى له بالمسرح وكونه تعامل مع المسرحية بحس روائى مألوف عنده......

قراءة نقدية في قصة " الحنطة " للدكتور مصطفى عطية

قراءة في قصة " الحنطة " لمصطفى عطية
للمبدع والناقد/ أحمد يحيي
( نشرت على موقع الورشة الإلكتروني )
مازلت مصرا على أن الدكتور مصطفى عطية جمعة يكتب القصة الواقعية "المختلفة" بعد أن استنفذت الواقعية أشكالها وآلياتها، وبعد أن أصبح الواقع أكثر صدما مما يمكن لمخيلاتنا أن تذهب...ورغم أن الأبداع الأدبي عمل فردي محض، وأنه ما من شكٍ أن بناء النص الأدبي لا يبتعد كثيرا عن بناء كاتبة ومرجعياته الثقافية على مستوى العادات والتقاليد والتاريخ والمحتوي المعرفي الذي يرتكز عليه هذا المبدع في الكتابة والتأصيل لأفكار تغيب -ربما- على مستوى السطح لكنها لا تموت وتظل قابعة في "لا وعيه" الواعي الذي يكتبه، لا نستطيع أن نغفل أيضا تداخل المتلقي في إنتاج النص وتأويله بحسب تعبير بارت "مُنْتِج للنص" كعنصر فعال في صياغته وتركيبته النهائية التي ربما تختلف اختلافا كليا أو جزئيا عما أراده المبدع، وربما أستعيد هنا كلمة بارت الشهيرة "كل نص هو تناص"، للتعبير عن تفاعل لغوي وتركيبي ما بين "نص غائب" و "نص ماثل" لتكون "نصا" تفاعلت فيه النصوص الغائبة فرادى أو مجتمعين من مرجعيات الكاتب الثقافية ومحتواه الفكرى - الشعوري واللاشعوري- باعتبارها أدوات الإبداع، لتكون نصا ماثلا حاضرا بين يدي متلقٍ هو أداة تفسير النص وتأويله طبقا لمرجعياته الخاصة وثقافته المتفقة أو المختلفة أو المتقاطعة مع ثقافة كاتب النص، لتظل العلاقة في تجاذب بين أخذ وعطاء وقبول ورفض بين المتلقي والنص مما يشكل تناصا آخر مع مرجعيات القارئ... ويجدر بي هنا أن أنوه أنه ليس من الضروري رغم اقتناعي بكثير مما طرحه "بارت" أن أكون مؤمنا أو ملمحا لفكرته الشهيرة "موت المؤلف" حتى وإن اقتعت كليا أو جزئيا برؤيته عن التناص، أو برؤية جوليا كريستيفا من أن النص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات.ربما كانت هذه المقدمة ضرورية بشكل ما للحديث عن قصة تسقط على الواقع المعاش بشكل ما وهذا الإسقاط في عقيدتي نوع من أنواع التناص، فليس كل تناص يعني تقاطعا لغويا "textile" لكنه يتخذ أشكالا عدة سنحاول استبيانها باختصار من خلال قراءتنا لعمل يستحق القراءة بالفعل....العنوان:جاء العنوان بسيطا جدا من كلمة معجمية لم تعد مستخدمة بشكل كبير، تحمل نفسا أسطوريا، فقد وردت في العهد القديم حوالي أربعة وخمسين مرة، وفي العهد الجديد حوالي ثمانِ مرات...فَلْيُعْطِكَ اللهُ مِنْ نَدَى السَّمَاءِ وَمِنْ دَسَمِ الأَرْضِ. وَكَثْرَةَ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ. سفر التكوين - العهد القديموَتَصْنَعُ لِنَفْسِكَ عِيدَ الأَسَابِيعِ أَبْكَارِ حِصَادِ الْحِنْطَةِ. وَعِيدَ الْجَمْعِ فِي آخِرِ السَّنَةِ. سفر الخروج - العهد القديمأَرْضِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَكَرْمٍ وَتِينٍ وَرُمَّانٍ. أَرْضِ زَيْتُونِ زَيْتٍ، وَعَسَل. سفر التثنية - العهد القديموَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. إنجيل متى - العهد الجديدوَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! إنجيل لوقا - العهد الجديداَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. إنجيل يوحناوقد كانت مصر كا ذكر بليني - تملك أفضل أنواع الحنطة. وافضلها على لإطلاق، وتبين النقوش الفرعونية سنابل الحنطة على الآثار المصرية القديمة. ولا يخفى المعنى المبطن من أن مصر التي تملك الحنطة تساعد في تجويع غزة بكل وضوح...!إذن نحن أمام عنوان يحفز المخيلة ويهيؤها للدخول إلى أسطورة ما، أو حكاية لها من التمادي في المطلق ما لها.اللغة:لغة بسيطة وجمل قصيرة مقطعة،متتابعة في سلاسة، أحالتني مرجعيا للنصوص المصرية القديمة وخاصة كتاب الموتى - ربما أكون مبالغا في ذلك لكنه تفاعلي مع النص على كل حال - وأرى أن هذه الإحالة تتماشي مع ما أراده د. مصطفى من تعليق على أحداث تلفنا الآن، أحداث غزة تحديدا، فمع كل التناقض في الموقف السياسي المصري كان لابد أن تستدعى حضارة مصر الخالدة ليصير التناقض بينا للعيان بين ماضٍ تليد وحاضر مخزٍ ومستقبل لا كنه له... فمفردات مثل "الحيات" و "قرص الشمس" و "الأفاعي" و "العقارب" و "الحنطة" لا يمكن لها ألا تحيلنا إلى النصوص المصرية القديمة، ناهيك عن تركيبة الجملة وديناميكيتها...سيطرت على اللغة ألفاظ اليأس والموت والبشاعة في بعض الأحيان، فالجو العام للقصة يستوجب ذلك، من هاربين لا أمل لهم من قرية "بربرة" بعد موت الأب"بكار" وموت الأم "برية" وموت الإبن "فرح"
سيطرت على اللغة ألفاظ اليأس والموت والبشاعة في بعض الأحيان، فالجو العام للقصة يستوجب ذلك، من هاربين لا أمل لهم من قرية "بربرة" بعد موت الأب"بكار" وموت الأم "برية" وموت الإبن "فرح" ونفاذ الحنطة، فنرى ألفاظا مثل "حيات" و"نيران" و"قذائف" و"عقارب" و"قبر" و"موت" و"أنقاض" و"تصلب" و"ظلام" ونرى تركيبات تنضح باليأس مثل "تصلبت الرمال أمام أظفارنا" و "أنترك عظامك تنبت الأشواك" و"الأرض هنا لن تجود بقبرك" و"لظلام مطبق" و"الصمت يملأ جسدي" ثم زروة المأساة في "ثم تلاحقت . . . أسنانهم على اللحم المنتفخ"... دلالات الاسماء:استوقفتني كثيرا دلالات الأسماء التي اختارها د.مصطفى والتي جاءت متوافقة تماما مع الجو النفسي للحكايةالأم "برية" : جاء في لسان العرب أن البرية هي "الأَرضَ المنسوبةُ إِلى البَرِّ وهي بَرِّيَّةً إِذا كانت إِلى البرِّ أَقربَ منها إِلى الماء"، فالأم "برية" ماتت أي أن الأرض ماتت، وموت الأرض لا يخفى معناه من الضياع والتشرد والشتات...الرضيع "فرح": مات هو الآخر رضيعا، فلا "فرح"، ولن يكون فالأم ماتت والأب مات...الأب "بكار": احترت كثيرا أمام دلالة الاسم هنا هل يحيل على "بكار" الشخصية الكرتونية المصرية الجنوبية المتوقدة الذكاء والفطنة؟ أم يحيل على "بكار بن قتيبة" الذي أرسله الخليفة المتوكل لتولى القضاء في مصر، والذي عرف عنه العدل والعفة والنزاهة وكان له موقف شهير من ابن طولون الذي حاول تسييس القضاء باستصدار فتوى بخلع "الموفق" فأبى بكار فسجنه ابن طولون وحاول استرضائه قبل مماته فقال له كلمته الشهيرة "شيخٌ فانٍ، وعليلٌ مُدنف، والملتقي قريب، والقاضي الله عز وجل"... وأنا أميل إلى هذا الطرح فهو الأقرب لجو القصة وما ترمي إليه، وما آل إليه حال قضاء مصر الذي كنا نباهي به ذات يوم.بلدة "بربرة":يحيلنا اسم البلدة فورا إلى تخيل ما حدث بها، لابد أن يكون عنيفا فجا شرسا "بربريا" باختصار على اعتبار المعنى الشائع للفظة "بربرية"، غير أننا يمكننا أيضا أن نحمل على هذا الاسم معنى "البربرة" والبربرة هي الثرثرة والجلبة بلا طائل والهذيان ولا يخفى ما اشتهرنا به - كعرب - من مطولات الكلام ولا أفعال، وظهر ذلك جليا في "حالة غزة"...الحكاية :كما أسلفنا في غير ذات موضع أن "القاص فما يشطب لا فيما يكتب"... نحن لا نعرف من أين أتوا ولا إلى أين ذاهبون، فقط هم أتوا من بلدة "بربرة"، بكل ما يوحيه الاسم لنا من ممارسات بربرية وثرثرة لا طائل من ورائها، ويريدون الوصول للحدود، لكن في كلمات بسيطة نستطيع أن نفهم أنهم هاربون من القصف "تُعالي صوت القذائف"، هي الحرب إذن، ولا نجاة مع موت "بكار" وموت "برية" وموت "فرح"، فضلا عن توحد زمن الحكاية مع زمن السرد مما يوحي بإطلاق الحكاية ولا محدودية زمنها، وتهويم المكان كل ذلك يصب في خانة إطلاق الحكاية، إنها حكاية كل الأزمنة في أرض بلا رحمة...الحوار وأصوات النص:لعل أهم ما يميز هذه القصة هو تعدد أصواتها، في تتابع حيث تبدأ كل شخصية الحديث و لا تتركه إلا بالموت... إنه اليأس ثانية، إنه الموت الذي يخرس كل شيء، وأرى رغم كل ما يخيم على جو القصة من يأس وموت وضياع أنها تنتمي لأدب المقاومة بمحاولة تشكيل وعي جمعي يؤمن بالحرية وسبلها، ويستنكر فقدان كل القيم من عدالة وحق في الحياة بأبسط مقوماتها، فالأديب لا ييأس أبدا مها كتب عن اليأس والإحباط والضياع، فكتابته في حد ذاتها هي عمل إيجابي يستنفر الطاقات لفعل عكسي ثائر ورافض لكل السلبيات التي تغمرنا، فالإغراق في اليأس محاولة لوخز الأمل وصدم الوعي الجمعي يدفعه قسرا لتبني موقف مضاد ومقاوم، فالكتابة عن السلبيات بكل هذه القتامة هي إيمان بالقيمة المفقودة وبحث عنها وكما قيل "الكتابة عن السلبيات أشرف بكثير من الكتابة عن الإيجابيات"...

قصة قصيرة : حلوق حارة

حلوق حارة

تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة . يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة .
رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا .
تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . . أشار نحو المخزن ، قائلاً :
- تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
صاح فيه ، و فيهم :
- حافظوا على الثمرات الفارغة .
كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد . السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
- ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
" صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
" الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه .
يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج .

قصة قصيرة : الحنطة د. مصطفى عطية

الحــنطـة

الأب بكار :
حتى الحيات ، خرجت تتلظى و تلتمع جلودها المزركشة تحت نيران القرص المتعامد في السماء ، كأنه يتعقبنا .
أيتها الأفاعي ، كفي عن اللهث ، فلن تنالي من جسـدي و لا جسـد زوجتي " برية " التي ضَمُر ثديها ، و رضيعنا معلق فيه ، و ابناي ، و ابنتي يجرون أقدامهم كأنها العصي . هل تطمعين - أيتها الأفعى - في الحنطة التي أحكمت ربطها على بطني ، و قد حفظت أعداد حبيباتها ؟
تقعرت بطني ، لا يزال النفس يتردد ، فلا تتطلع عيونكم - أبنائي - إلى الحنطة و إن كان القلب يهُن لكن دقاته تُعالي صوت القذائف التي صَمّت إحداها أذنيّ . . . هناك في بقايا بلدتنا " بربرة " .
تقوست ساقاي ، ليس بعد ، أمامنا ليالي حتى نصل إلى السلك الشائك للحدود . تتحسس أناملي الحنطة ، كأن ملمسها نغم . تلسعني عيونهم ، و بريق الروح يتسلل من شفاههم التي أخرست ضنًا بالرذاذ المتطاير مع الكلمات . لن أقرب حبيبة واحدة ، سأقاوم أيها الرضيع ، ألا تترك قطعة الجلد المعلقة في فيك . افتح عينيك حتى أشم الروح منها ، أو حرك أصابعك المتجمدة كالعقارب المتناثرة موتا حولنا .
هل تشبع من سكونك . . ؟ لا . . . إنه يُذكّرني بسكون أبي في قبره تحت الأنقاض ، بينما النيران تتصاعد للنجوم .
السكون في خلاياي . تقترب طاقة النور ، من قلبي . الآن . . . ربما الحنطة . . . تعزف الموت لي . . . . . و الحياة لكم .
الأم برية :
تصلبت الرمال أمام أظفارنا . أنترك عظامك تنبت الأشواك . الأرض هنا لن تجود بقبرك . أحكم ربط الحنطة حول بطني . رضيعي " فرح " فارقني مقتلعًا ثديي . ساكن بجوار من ألقى بذرته في رحمي التصق ولداي و ابنتاي ببطني . . يفكون القماش ، لا تزيدوا - فلذات كبدي - على كف من الحبات . . ثم أسرعوا بأقدامكم .
الظلام مطبق ، و أجسادنا المتساندة في نومها ترتجف . تلك النجمة ، واهنة حركتها من المشرق إلى حيث يبتلعها المغرب . هل تتأسين - أيتها النجمة - لوحدتك في السماء أم لوحدتنا ؟ ها هو القرص يتسارع بخيوط أشعته المحرقة . تفتحت أبصارنا تتخطى تماس الأفق من بعيد .
شدوا يدي - أبنائي - ليلة واحدة ، منذ فارقتنا يا " بكار " و يا " فرح " . الحنطة تتناقص و أنفاسكما تلاحقني . دعوا يدي . . فالصمت يملأ جسدي .
عيونكم ستواصل المسير نحو سلك الحدود الشائك ، حيث هناك يهطل الماء ، و يلمع رذاذه من السماء . الصمت الآن . . .
. . . . . . له رنين مع طاقة النور التي تدنو مني .
الولدان و البنت :
عند رأس " برية " تقول البنت : " لا تنهوا الحنطة حتى نستطيع أن نصل " . توقفت أسنان الولدين ، كان الأفق ملتفًا بالاحمرار . تلفتت عيونهم ، تصرخ في الجسد المسجي . . . .
" أين السلك الشائك يا أمنا ؟ ، أفيقي ، و أشيري لنا . . سنعدوا نحوه ، قد شبعنا . . أشيري . . أشيري . . ".
تقول البنت : " أمنا " برية " مع " فرح " و أبي " بكار" لا تقلقوها " .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النجمة تسرع من المشرق للمغرب ، مرات ، و مرات . . عيونهم . . الآن . . معلقة بالجسد الذي بدأ في الانتفاخ و قد ازدادت بطونهم تقعرًا ، يصطرخون جوعًا . . .
. . . . . ثم تلاحقت . . . أسنانهم على اللحم المنتفخ .

الخميس، 15 أبريل 2010

مفهوم الحداثة بين الأدب الغربي والأدب العربي ( قراءة أولية )

مفهوم الحداثة بين الأدب الغربي والأدب العربي ( قراءة أولية )
د. مصطفى عطية جمعة
يعتبر مصطلح الحداثة Modernism من أبرز المصطلحات التي شاع حولها لغط كبير في الربع الأخير من القرن العشرين في الأدب العربي ، فمروجوه من الشعراء والكتّاب اعتبروا أنفسهم أصحاب التقدم وأهل العصرنة ، بينما اتهمهم المعرضون بأنهم يروجون كفرًا وزندقة ، وبدلاً من مناقشة الجانبين ، لنتعرف على تاريخ ومفهوم هذا المصطلح .
من الثابت تاريخيًا أن هذا المصطلح ظهر بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا ، ويعود سبب ظهوره إلى الحالة الفكرية والنفسية التي انتابت مفكري وفلاسفة أوروبا بعد الحرب ، فقد وجدوا عدد ضحايا هذه الحرب يصل إلى خمسين مليونًا من القتلى ، ناهيك عن الجرحى والمشوهين ، مما أوجد حالة من العبثية واليأس ، فكم الملايين من الشباب الذين ماتوا على خطوط القتال ، فكان السؤال المطروح : ما السبب في ذلك ؟ أرجع المفكرون هذا إلى العقائد السائدة في العالم ، فالصراع في الحرب العالمية الأولى صراع أفكار ناتج عن وجود كيانات ثقافية وسياسية تستند إلى الدين مثل : الدولة العثمانية وألمانيا وروسيا القيصرية والمملكة المتحدة وهذه دول اتخذت الدين ( الإسلامي أو المسيحي ) شعارًا في حربها ، ومن هنا نشأت فكرة الحداثة ، في حالة تضاد مع كل ما يمت إلى الماضي الرجعي بصلة ، لأن أفكار الماضي هذه سبب الخراب والقتل ، فكان لابد من تدميرها واستبدالها بنظم فكرية وفلسفية جديدة ، ومن هنا نشأت فكرة التدمير التي تعتبر المحور الأساسي لمصطلح الحداثة ، ويعني : تدمير كل ما هو ماضٍ وإحداث قطيعة معرفية ونفسية معه ، لصالح بناء أفكار جديدة ، فليس تدميرًا فقط ، بل هو تدمير وبناء ، تدمير للسابق المتخلف ، وبناء لجديد مبتكر .
وكانت هذه الفكرة وقودًا للحركة الشيوعية في روسيا البلشفية ، حيث تبنت هذه الحركة تدمير روسيا القيصرية لأنها تعتمد على نظام كنسي متهالك يساند الحكم القيصري بكل جبروته ومظالمه وتمييزاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، وبناء نظام عقائدي وسياسي واجتماعي جديد من خلال تطبيق الفكر الماركسي الذي يقدم معالجة شاملة – كما يرون – من أجل تكوين مجتمع حداثي عصري .
وفي الأدب ، سعى الأدباء الغربيون إلى تقديم أشكال أدبية جديدة في بنائها وتصوراتها ، ولعل الأديب الإنجليزي جيمس جويس نموذجًا واضحًا لذلك في روايته Ulses أو عوليس في ترجمتها العربية ، وهي رواية استحدث فيها جويس شخصيات قلقة ، لها أفكار منحرفة تضاد التقاليد والدين المسيحي ، وتدعو إلى التحرر من القيم الاجتماعية الموروثة التي تحدّ من حرية الإنسان ، وتكبت رغباته ، فرأينا في الرواية أفكارًا تدعو للإباحية الجنسية والعلاقات المثلية والإنجاب خارج الزواج ، وكل هذا تحت دعوى تحرير الفرد من كل ما هو سابق من قيم ، المهم أن تتحقق السعادة للفرد ، بأي وسيلة كانت . لاشك أن رواية عوليس وفقًا للتقويم النقدي رواية رائدة في بنائها الفني ، وخاصة أن جويس استخدم مفردات من عشر لغات ، وأدخل عشرات الشخصيات الجديدة ، بأحداث شديدة التشويق ، ولكن أحيانًا العبقريات الفذة تشطح وتضر ، ويكون تأثيرها أعظم من غيرها .
ثم انتقل مصطلح الحداثة إلى الأدب العربي الحديث ، منذ أوائل الستينيات في القرن العشرين ، على أيدي طائفة من شعراء سورية ولبنان ومصر، من أبرزهم : الشاعر السوري " علي أحمد سعيد " المعروف باسم " أدونيس " ، وسعيد عقل من لبنان ، ومن مصر : حسن طلب ، وحلمي سالم ، ورفعت سلام ، ومحمد عفيفي مطر وغيرهم .
وقد انتقل هذا المصطلح من خلال مجلة " شعر " التي كانت تصدر في بيروت في الستينيات واتضح بعدها أن المجلة ممولة من المخابرات المركزية الأمريكية كما ورد في الكتاب الشهير " من الذي دفع الثمن ؟ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والحرب الباردة الثقافية " ، لمؤلفه " فرانسيس ستونور سونديرز " وكانت تستهدف بث قيم أدبية غربية في الأدب العربي ، بهدف إغراق الجيل الجديد من الأدباء العرب في تهويمات شعرية ولغوية ، تبعدهم عن تقاليد وقيم المجتمع ، وتزيد من غربتهم الفكرية ، وتحدث قطيعة بينهم وبين المتلقي العربي .
ومن ينظر في النماذج الشعرية التي صاحبت موجة الحداثة التي زاد انتعاشها في سنوات السبعينيات حتى أواسط الثمانينيات ير أنه سعت إلى تدمير الأبنية اللغوية والأدبية في الشعر من خلال السخرية بكل التعبيرات والصور المتوارثة ، وإحداث بناء لغوي جديد ، التدمير للغة ، والبناء لسياقات جديدة ( فكرة التدمير والبناء ) ، فرأينا صورًا شعرية شديدة الغموض ، وتعبيرات لغوية معقدة ، وصار الشعار المرفوع : العيب في القارئ المتلقي ، وليس في الشاعر المبدع . وتحدى هذا الجيل أكثر ، حينما قاطعوا المجلات الثقافية السائدة وقاموا بإصدار مجلات جديدة مثل مجلة " إضاءة 77 " في القاهرة ، التي عبرت عن جماعة إضاءة الحداثية ، وقد اتهمت هذه المجلة – في مقالاتها النقدية – الجمهور العربي بالانقطاع عن الأدب ، وراحت تردد أن شعراءهم يكتبون للأجيال القادمة ، وأن هذا الجيل لن يفهمهم . وكان من تجليات شعر الحداثة المزيد من الإغراق الفلسفي ، وإسباغ نظرة الفيلسوف القابع في برج عاجي على القصيدة ، فكان ديوان " سيرة بنفسج " وديوان " زمن الزبرجد " للشاعر حسن طلب اللذين أوجدا رؤية فلسفية لزهرة البنفسج وجوهرة الزبرجد ، جعلاها ذات عالم فلسفي متكامل ، وهذه فكرة جيدة ، ولكنها شديدة الانقطاع عن مشكلات المجتمع ، وواقع الشباب وفكرهم فكأن الشاعر في واد ، ومستمعه في واد آخر ، وهذا نجده أيضًا في ديوان " الأبيض المتوسط " للشاعر حلمي سالم ، حيث نرى أبنية لغوية معقدة تصل إلى درجة الإلغاز ، ولا نكاد نعثر على فكرة محورية للنص ، بل مجرد تتابعات لصور وأخيلة لا رابط بينها إلا ما يضفيه المتلقي من علاقات فكرية مصطنعة من عنده ، وكانت نهاية الموجة مع ديوان " آية جيم " للشاعر حسن طلب ، الذي جعله على نسق القرآن الكريم حيث يقول في المفتتح : أعوذ بالشعب المسكين من السلطان الغشيم ، باسم الجيم " ثم رأينا بناء لغوي شديد التعقيد ، أخرج كل الألفاظ الجيمية من المعجم وراح يستخدمها في قصائد شديدة التعقيد ، ناهيك عن التجاوزات العقدية والشطط الفكري .
لقد ادّعى هؤلاء أنهم رواد التنوير والتقدم ، واتهموا كل من عاداهم بالرجعية والتخلف ، وصار كل من لا يقرض الشعر على طريقتهم متأخرًا ، أي نشروا إرهابًا فكريًا . وكانت النتيجة : انصراف الجمهور عن متابعة الشعر ، عزلة الشاعر عن الحياة والناس ، الغرق في التعقيد اللغوي ، ربط الموجة الحداثية بالفكر الغربي بشكل عام ، واتخاذ هم العلمانية دينًا وشعارًا ، والغريب أن الدائرة تدور على هؤلاء ، ويأتي من بينهم شعراء يتمردون على رؤاهم ، ويتهمونهم بالتعالي والتفلسف والانعزال ، فانقلبوا عليهم وجنحوا بالقصيدة إلى البساطة والوضوح ، وتبنوا بعض أطروحات ما بعد الحداثة التي رحبت بالقيم الدينية والمجتمعية – جزئيًا - وهكذا ما طار طير وارتفع ، إلا وكما طار وقع .
وانزوى هؤلاء إلى النسيان ، وظهرت موجات شعرية جديدة ، تجاوزتهم .
ولكن من الإنصاف أن نذكر لهؤلاء الحداثيين أمرين :
الأول : أنهم كانوا مخلصي النيات في كثير من تجاربهم الشعرية ، ولم يكونوا كما ادعى مخالفوهم عملاء ومتآمرون ، بل كانوا يريدون أشكالاً جديدة للشعر ، تخالف ما وجدوه من السابقين ، وهم مدفوعون في ذلك إلى رغبتهم في التجديد والمخالفة ، وقد كانوا في سن الشباب والمغامرة وقد اعترفوا بذلك في التسعينيات حيث قالوا أن تجربتهم الشعرية بها كثير من المآخذ ، وبرروا ذلك بغياب الحركة النقدية الجادة عنهم .
الثاني : أنهم أحدثوا حراكًا فكريًا وثقافيًا في المجتمع ، حيث ثارت أسئلة عديدة من مثل : لماذا تجمد الشعر العربي – السابق عليهم - ووصل لطريق مسدود على صعيد الصور والرموز ؟
وابتكروا تعبيرات تقدية عديدة مثل : الحساسية الشعرية الجديدة ، والكتابة عبر النوعية ، وهذه ولدت جيلا جديدًا من النقاد ظهر بعد ذلك ، وراح يطور أدواته النقدية من أجل مواكبة النصوص الشعرية الجديدة .

للتواصل : mostafa_ateia123@yahoo.com








قصة قصيرة : عراك د. مصطفى عطية

عِــــــــــراك
بسطتْ طرحتها على حجرها ، سوّتْ بأصابعها نتوءات شعرها ،دبيب الصداع مع تسلط أشـعة الظهيرة ،آليتهافي المناداة على " الشمام و العنب " . تصرخ في ابنها بدوي أن يوقظ أباه . يقدم الصغير ببطيخة تسيل احمرارًا على جلبابه المتسخ .
تثاؤب الأب ، سباب متقطع ، يده تمتد للقلة الساخنة المركونة فوق أحد الأقفاص بالدكان . ذراعاه في جلبابه المعلّق ، لاسته وطاقيته .. ، مناداته على امرأته ، تستقر محفظته المنتفخة في جيب الصديري،
ترسل له ورقة السندويشات ، إشارتها لبائع الشاي المتجوّل بصينيته .
قضماته ، ورشفاته ، وجنتاه المتهدلتان بفعل السهر والحشيش . نفخ بقرف نحو زوجنه .
* * * *
" أم وليد " العايقة ، تسكن وراء السوق ، زوجها في السعودية .سمسمة وجهها تبرز من طرحتها، وقد تعلّق ابنها بملاءتها وهو يمتص حبة مانجو .
تنقلت بين البائعات حتى أم بدوي ، بحلق فيها الزوج .
- بكم كيلو الشمام ؟
- نبيع بالحبة ، وليس بالكيلو .
- كل السوق يبيع بالكيلو ..
- أنا أبيع على كيفي ، أنتِ ولية …….
فردت أم وليد ملاءتها ، هبّتْ أم بدوي من وراء شمامها ، قبضتها على حديد الميزان . بدوي ممسكًا بوليد . بحلقة الزوج في غريمة زوجته .
زحمة السوق ، ركلات وشتائم و"شباشب" ، يتمزق كتف أم وليد . يختلط سائل البطيخ مع اصفرار المانجو . عيناه مثبتتان على الكتف المكشوف . يتداخل مبعدًا امرأته . تدفعه ، يده على قفاها ، تنقلب :
- يا واطي … ، أنا من فجرية ربنا ، وأنت آكل ، شارب ، نائم و …………. ، وراسم نفسك معلم بفلوسي .
هائج نحوها ، شلّحت ملابسها : - زهقتَ مني ؟
تناثر هرم الشمام ، صفعاته ، شتائمها . قالت إحدى البائعات : " كل أسبوع لهما عركة ".
* * * *
الليل ، أنفاس الحشيش في دكان مهجور ، ينفخ بزهق . تنفس الفجر ، يتمايل إلى دكان امرأته . موضعها بين الأقفاص ، يزيح ابنه . سباب مع لمسات الأيدي . " غير معقول أن أرجع بائعًا للثوم في السوق .." الاحتكاك المتقزز .

قصة قصيرة : رأس بارز

قصة قصيرة : د. مصطفى عطية
رأس بارز

تتحرك منحدرة من فوق مرتبتها ، تجرّ رجلها الفاقدة الحياة ، وبيدها تضبطها كلما زحفت. صرير باب الغرفة المكتوم ، درجتا سلم حجري تواجهها ، وبصيص من ضوء البكور ، تطالع الملح المتكلس على الحجر والجدران . تلتقط أنفاسها ، تحبو ، الدرجة الأولى ، ثم الثانية ، رجلها معلقة لأعلى ، تسحبها بتأوه خافت . تتشبث بثنيات الباب الخارجي للبيت ، تحرّك المزلاج .
أطلّ رأسها ، البكور ، زقزقة العصافير ، الأرجل تدب في الشارع . يهدمون بيت " نبوية أم شعبان " ، كانت هي وكل إخوتها ، بنسائهم وعيالهم .. ، الأطلال تنحسر عن مساحة صغيرة . كيف كان تجمعهم تلك الجدران ؟ منذ أن ماتت نبوية ، تفككوا ، وصفّى الصغير البيت لنفسه .
عمارة الحاج " جلال " ، خمسة أو ستة أدوار .. ، ترفع بصرها تعدها .. ، سبحان العاطي ، كان مرمطونًا عند المرحوم زوجي .
* * *
من الشرفة ، تقول " أم سيد " :
- شوفي الحاجة " تحيات " ، اشتاقت للشارع .
ترد ابنتها :
- أسمع عنها ..
- مريضة منذ سنين ، وحبستها ابنتها " أحلام " في غرفة تحت السلم .
* * *
من بُعدٍ ، طالعتها إحداهن، وكانت تسير في الشارع ، حاملة قفة خضار :
- شافت أيامًا مع زوجها المعلم " محي " ، عزًا وذهبًا .
رفيقتها ، تنظر للرأس البارز :
- دوام الحال من …….
- أنجبتْ له خمسة رجال وبنتًا واحدة .
- وأين هم ؟
- كل واحد تسيّره امرأته .
* * *
الرأس البارز يستند للباب ، أنهكه التطلع ، بعدما ارتفعت العمارات حاجبة أشعة الشمس ، "الحارة الضيقة نفق ملتوٍ ، يمتليء بالدراجات البخارية المركونة أمام الأبواب " .
كنت أجلس كل ليلة على العتبة قدام بيتي ، وبجواري قلة المياه التي يفوح منها النعناع ، وكوب الشاي ، وأنادي على جاراتي ، ونسمر باللب والذرة المشوية … ، لا مكان لي بين هذه الأعمدة والعمارات . يتراجع الرأس البارز .
* * *
الجارة ثانية لابنتها :
-" أحلام " بنت " تحيات " ، على كل بياضها وشعرها " السايح" ، ركنت جانب أمها بعد زوجين .
- والسبب ؟
- عقلها خفيف ، وفلوس أبيها دلّعتها .
تردف :
- وزوجها الأول أخذ العيّلين منها . فعاشت تناكف أمها .
* * *
تلتقط أنفاسها ، كأن درجتي السلم بناية عالية ، رجلها ثقيلة كالدهر وهي تسحبها . ترتخي الأصابع ، تتنسم هواءً من فرجة الباب ، " تحمل النسمات رائحة الهدم " .
ربما تكون الذكرى أريجًا ، يصاحبني في أويقات الزمن المتسحبة ، وربما تكون المرتبة القطنية ألين من العمارات المتطاولة .
صوت " أحلام " :
- أين أنتِ يا ولـيّة ؟ حبوتِ ثانيةً ؟!