الاثنين، 18 أكتوبر 2010

دراسة جديدة في مجلة الشعر المصرية خريف 2010 - تجليات المكان في شعر العامية ، شعراء الفيوم نموذجا

إبداع المكان وتجلياته في شعر العامية الجديد
شعراء الفيوم نموذجا
د.مصطفى عطية جمعة
Mostafa_ateia123@yahoo.com
يتجلى المكان : إبداعا وأصداء لدى شعراء العامية في الفيوم منذ عقود ، حيث يفرض موقعها الفيوم نفسه في نفوسهم ؛ كونه منخفضا طبيعيا ، أكبر من الواحة وأصغر من الإقليم ، ينأى عن النيل وواديه ، بعيدا إلى الصحراء الغربية ، وإن كانت تربته ترتوي بماء النيل عبر ترعة بحر يوسف . وقد تبارت الأجيال الأولى في شعراء الفيوم في شعر الطبيعة والوصف ، سواء بالعامية أو الفصحى معتمدين على الشكل العمودي المشابه ، وجاء وصفهم المكاني للوطن الصغير والوطن الكبير ، وعندما شجبوا الوطن المكان ، فقد أدانوه بخطاب مباشر، ينتقد الجزئيات والسلبيات ، ولكنه يؤكد على تمسكه بالمكان ، وانتمائه للوطن . يبدو هذا في تجارب الشعراء : ابن حنضل ، ومحمد حواس ، محمد البسيوني ، ومن لحقهم من جيل الشباب مثل عبد الكريم عبد الحميد وغيرهم ، على أن الجيل الجديد ( شعراء حقبة الثمانينيات وما بعدها ) تفاعلوا مع الوطن / القطر /المكان / وعكسوا التطور في شعر العامية الحديث : شعر التفعيلة وقصيدة النثر ، فظهر المكان بشكل مختلف ، لا يقتصر على الفيوم / المدينة / الطبيعة ، وإنما أضحى المكان متسعا باتساع الوطن ، ممتدا إلى خارج الوطن في السفر وبلاد الاغتراب ، انزوت فيه ملامح المدينة الصغيرة ، لتصبح ملامح عامة ، تتشابه فيها مع سائر المدن في مصر وخارجها، وهذا بالطبع ليس علامة سلبية كما يُظَن في الوهلة الأولى ، وإنما هو علامة إيجابية ، تتمثل في إيجاد تراكم إبداعي ، يضاف لما سبق ، ويقرأ المكان في تجلياته في المدينة الصغيرة ، وارتباطها بالقطر الأكبر / الوطن ، والفضاء الأرحب ( مجتمع العروبة والعالم ) . وهذا ما نجده في قراءتنا لشعر العامية في الفيوم عبر استعراضنا لنماذج من نصوص الجيل الجديد من مثل: محمد عبد المعطي ( رحمه الله ) ، محمد حسني إبراهيم ، مصطفى عبد الباقي ، سيد لطفي، وهم وإن تفاوتت أعمارهم ، واختلف التراكم الإبداعي لديهم ، إلا أنهم يتجاورون في إبداع قصيدة العامية الجديدة بتدفق ، يشي بالكثير من المشترك بينهم ، ودراسة تجليات المكان فيها ، ولعل الانطباع الأول في علاقة شاعر العامية بالمكان ، تبدو متقابلة ، بين حميمية الانتماء ، ومعارضة الانزواء ، بين الرغبة في الالتصاق بالأرض ، ومشاعر الاغتراب المكاني ، بين إدانة السفر للبعض ، والتماس العذر لمن اختار الغربة وطنا . وهذا ما سيبرز في المحاور الآتية .
المكان / النيل / الحلم :
حيث نرى الانفعال مع الوطن الكبير ( مصر ) ، وهو تفاعل يمتزج بثنايا الخطاب الشعري ، يقول محمد عبد المعطي معبرا عن روح هذا التوحد بالمكان / الوطن ، متخذا مفردة النيل عنوانا لهذا التوحد ، متوجها إلى المحبوبة الحلم :
والتقيكي بين عيوني بتسجدي
تتعبدي .. تتوضي من صبح الندى وتجسّدي
نيلي ف عروقي وترصدي
نبضي في وريدك تنشدي غنوة صباحي وتفرضي
دمك في دمي توحدي.. تتوحدي ...
وأصب نيلي واكتمل آية خصوبة ف أرض بور
وأثبت الصورة .. أشتعل
أحلم .... أغيب ( )
الخطاب الشعري هنا موجه للأنثى / الوطن ، وقد مزج في طياته أبرز سمات الوطن ومعالمه المكانية ألا وهو النيل النهر والحضارة ، وقد عبر عن الامتزاج بين الذات الشاعرة والوطن من خلال الدم : " دمك في دمي توحدي " ، ويضيف النيل إلى ذاته ، بإضافة ياء المتكلم إليه ( نيلي ) ، والذي كان يوما سببا للحضارة حول واديه ، ليكون النيل / أبرز ملامح الوطن المكان ، سبيلا إلى النماء الجديد ، الذي يعبر عنه بقوله " خصوبة ف أرض بور " ، فالخصوبة علامة على الحضارة، وسط صحراء مصر بشقيها الغربي والشرقي . ولو أعدنا قراءة هذا الطرح في ضوء عنوان القصيدة ، نرى حلما ، يعبر – في دائرة المسكوت عنه – عن أزمة الوطن المعاصر بكل تداعيات هذه الأزمة ، لذا لا غرابة أن تنتهي القصيدة بـ " أحلم ... أغيب " ، في إشارة إلى أن المكان / الوطن الكبير ، بات مؤرقا ، مانعا لأحلام اليقظة .
ويؤكد هذا الملمح في قصيدة " نفس الشوارع " ، معبرة عن تيه الذات وسط شوارع المدينة / الوطن ، التي أورثتهم الجنون والخوف :
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت مني .. سافر الإيقاع
العشق تعويذة
النيل عطش
شعر البنت تكعيبة ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع مسألة هزلية ، واحنا بنخاف
م الحكومة ونستخبى ف الهدوم " ( )
لم تعد الشوارع معبرة عن ألفة أبناء الوطن ، إنها مسألة هزلية ، فالشوارع التي تسمح للمواطن بالسير وتمنعه من التظاهر والتعبير عن حبه ؛ هي شوارع طاردة ، لذا ، بات المواطن ، مختبئا في ملابسه من الحكومة ، خوفا ، وإيثارا للسلامة . وتكون النتيجة الطبيعية لهذا ، أن جف النيل " النيل عطش " ، لتنقلب الدلالة ، ويصبح النيل شاهدا على تهاوي الوطن ومواطنيه ، وبدلا أن يكون النيل هبة لمصر ، صار شاهدا على انزواء مصر ، ومن ثم جف ماؤه ، وبدلا أن يكون شعر المحبوبة مثل تكعيبة العنب خضرةً ، وباتت الضفائر مشابهة للثعابين في التفافها.
وتتشابه التيمة لدى محمد حسني في قصيدته " عرايس النيل " ، وهي تتناص مع عادة الفراعنة القدامى ، بتقديم أجمل بناتهم لمياه النهر أملا في فيضان مبارك، وتوسلا لعدم انقطاع المياه ، لب حياتهم وحضارتهم، يقول:
" .. أول عرايس النيل تشد ف دمعتي آخر عروسة نيل بتتمرغ ف قلبي "
غنايا سر تعويذتك / على الجدران بتقراني
تسمعني رنين النيل
وإذا فكرت أقول مواويل
ألاقي صوتي مش مسموع ___ وأنا فاكر غناكي تماما " ( )
التناص مع " عرايس النيل " ، فيه وجهان متقابلان : استحضار الحضارة الفرعونية بكل إنجازاتها ، وعاداتها ، ورموزها ، وهو استحضار للفخر ، والوجه الثاني : بكاء على حالة معاصرة ، تراجع فيها الوطن ، وهذا ما عبر عنه مفتتح النص فعرايس النيل " تشد ف دمعتي " ، " بتتمرغ ف قلبي " ، وكلتاهما ممتزجة بالذات الشاعرة بإضافة ضمير المتكلم . ومن مظاهر أزمة الوطن / المكان ، الأذن الصماء التي لا تسمع أنين الآخرين ، مثلما لا تسمع شدو الشاعر ، وقد توحدت الذات مع النيل توحدا جماليا ، باستخدام مفردات الصوت : ( غنايا ، رنين، مواويل ، صوتي ) ، ويصبح الصوت مظهرا للحضارة ، وأيضا جسرا للتعبير عن ذات اكتوت بمن لا يسمعها .
كلا من محمد عبد المعطي ، ومحمد حسني ، من جيل واحد ، وفي سن متقاربة، وقد جاء كلا النصين في خضم تجربة واحدة ، في زمن واحد ؛ كما يشير تاريخ نشر الديوانين ، فالفارق الزمني بينهما عامان تقريبا .
ويشتد الصوت بإدانة في تجربة محمد حسني ، في آخر دواوينه ، حيث يتحول الخطاب إلى صراخ ، في قصيدة حملت عنوان " النيل " أيضا ، وكأنه الرابط بالوطن ، والعلامة أيضا على الوطن ، يقول :
أنت اللي عارفينك وطن
وصبرت لما كبرت فيك
علمتنا معنى السكن
وزرعت فينا الخوف عليك ....
فلو سمحت تقول لنا : هاتجيب منين تقاوي تشبه أصلنا ؟
واحنا إن لقينا ف وسطنا
بذرة ومن ريحة بطل نزرعها فين ... ؟ ( )
الخطاب واضح مباشر ، يحمل إدانة لتغييب أبناء الوطن ، لذا جاء بضمير الجمع " تقول لنا ، أصلنا ، نزرعها " ، مقارنا بين حالين : ما تم عرسه في النفوس من حب الوطن ( زرعت فينا الخوف عليك ) ، وبين حال راهنة ، صارت أرض الوطن فيه طاردةً أبناءها ، إن الضدية أساس الرؤية في هذا الخطاب ، فهي تطرح سؤال الانتماء : بين تنظير وغرس يتلقاه الشعب في المدرسة والإعلام والخطب ، ثم يجد الوطن / المكان مختطفا منه .
المكان / الطارد :
عندما يصبح المكان دافعا للانزواء ، وهذا نتيجة حتمية لتهاوي الحلم في المكان / الوطن ، فشعرت الذات بعمق الأزمة ، فاختارت المنفى ، ليصبح المكان الوطن منفى ، وقد يكون ما هو أكثر ، يقول مصطفى عبد الباقي :
لسّاك بتكابر
اضربها في راسك واعقلها
وساعتها
إديني أمارة أنك تسوى
وانك مش أكتر من ضل الحيط
ديتها دمعة
ربيتها في كوم اللحم
وشوية بكش ( )
إن قضية قيمة الفرد في الوطن هي الشغل الشاغل ، وقد جاء تعبير " ضل الحيط " مجسدا هذا المعنى ، وهو من علامات المكان ، فالظل انعكاس لشيء محسوس مادي ، والحائط لا تقام إلا في مكان ، وظل الحائط تعبير عن الوجود وعدمه ، فالظل يجسد وجود شيء ، وفي الحقيقة هو لاشيء ، إنه تعبير عدمي، شديد الدقة ، لأن الحائط يستلزم مكانا ، والمكان المقصود هو الوطن ، الذي يتعامل مع أبنائه على أنهم ظلال ، أشباه رجال ، فيمكن للوطن أن يعترف بالحائط المادي ، ولكنه لن يعترف بمكانة هذا الحائط ولا بمعنى انتصابه ، ويأتي الخطاب الشعري هنا بضمير المخاطب ، معبرا عن مكانة الفرد / الذات / الآخر ، فهو في النهاية : دمعة ، وبعض البكش أو الكلام المزخرف. ويقول:
الأرض بتتكلم صيني
وأنا ..
رحت ميه ورا خرم الباب
وباقلد العتمة( )
هنا تناص مع الأغنية الشهيرة " الأرض بتتكلم عربي " ، التي تغنى بها سيد مكاوي في زمن الحقبة القومية ، ولكن التناص يأتي بالسلب ، لتصبح الأرض ذات دلالتين مكانيتين مترابطتين ، الأولى : إن الأرض – هنا - ليست هي أرض العروبة ( العالم العربي ) وإنما كوكب الأرض المغرق بالبضائع الصينية ، أما الدلالة الثانية فهي أن الوطن مصر بات غارقا في الصيني : بضائع وبشرا وتجارا، بينما انزوى الإنسان المصري ، يراقب تراجع الوطن صناعة وإبداعا ، مؤثرا المنتوج الصيني رخيص الثمن ، على الإنتاج الوطني المدعم من الحكومة ، خلف الباب ينظر من فتحته ، إلى عتمة وظلام ، وهو غارق في عرقه خجلا وقد يكون خوفا ؛ إنها صورة سيريالية ، فالذات تسبح في عرقها ، وتبحلق في الظلام.
أما الشاعر سيد لطفي ، فهو يعزف على وتر أشد شجنا ، يقول:
" ... وبلاش تتكلم ،
عن طعم الغربة في حضن بلادك
اعتبر إنك مفطوم .
..........
- خايف ؟
- طبعا .
- ليه ؟
- أصلها أول مرة أموت .
- وآخر مرة ، غمض عينيك واشرب
بدل ما تستناه روح له ، مادام مش قادر تهرب ، اشرب " ( )

الخطاب موجه إلى الذات الشاعرة وأيضا لكل ذات على أرض الوطن /المكان، حيث يأتي تعبير " حضن بلادك " مؤكدا حقيقة الانتماء للوطن ، وأن الإحساس بالغربة على أرض الوطن هو الأشد مرارة ، ولذا جاءت الصورة واصفة الوطن حضن الأم ، معتبرة أن الفطام يعني ترك هذا الحضن ، وبتعبير آخر ، فإن الفطام يتحور لغويا من ترك ثدي الأم ، إلى ترك حضن الوطن ،وفي كلتا الحالتين، فإن الوطن كالأم ، لا تنكر ابنها مهما قست عليه ، مثلما لا يمكن الابن بنوته ، مهما تناءى عنها . الحوارية التي أعقبت هذا ، كانت منولوجا في أعماق الذات، يشي بمشاعر من الخوف ، ولكن الخوف ليس من رجال الأمن ، وإنما من الموت ، وكأنه يستعد للموت ، وأن الموت حتمي لا فرار منه ، وفي ثنايا النص ، فإن الموت يعني الهروب عن الوطن ، وبدلا من انتظار الموت ، فلتذهب له . وهنا نجد تتطورا في العلاقة مع الوطن ، فقد بات الاغتراب عنه أمر مسلم ، وبات الموت على ثراه أمر مألوف ، وهذا الموت لا يعني الموت الإكلينيكي ، بقدر ما هو اغتيال الذات بنفيها وإقصائها .
إن الاغتراب المكاني لا يهدئ الذات ، بل يشعلها ، وهذا ما يؤكده محمد حسني ، بقوله :
سافر وخطاويك الحزينة هتلاقيك
وهايعرف المشوار بداية خضتك
بتقول سنين ما هتعرفكش
وانت اللي ملبوس بالوطن والأمكنة ( )
المفارقة أن يكون عنوان النص " استغماية " ، وهي لعبة شائعة ، أساسها المطاردة بين فريقين أو فردين ، وهي لعبة مكانية ، فالمطاردة تقتضي أمكنة للاختباء والركض ، وهنا يصبح اللعب بين الذات الشاعرة والوطن ، فعندما فرت الذات إلى الغربة ، طاردها الوطن في أعماقها ، وكأنها مسحورة بعفريت أمكنته، ونلحظ استخدام الشاعر مفردات مكانية ، فالخطوات الحزينة لا تبدو إلا على فضاء مكاني ، والمشوار ما هو إلا قطع لمسافة مكانية . وهذا ما يجعله يخاطب نادي حافظ – شاعر من الفيوم مغترب بالخليج – بنبرة تحذيرية :
رايح لقدرك
بس نيلك عطش
والخوف تكون رايح تسف الرمل
أو ترمي ندرك ليه
الخوف عليك أكتر هناك تستطعمه
ترجع ما تعرفش الخضار
غير العلامة الوسخة على وش الدولار( )
يكرر تعبيره " نيلك عطش " الذي يتناغم مع معطيات جمالية مرت بنا ، ولكن النيل يأتي بخصوصية ذات المخاطَب ، في إشارة إلى صعوبة الحياة في الوطن فبات طاردا أبناءه . وتأتي مفردة : " الخضار " معبرة عن اخضرار الوطن أمام مفردة " الرمل " المعبرة عن أرض المهجر .
* * * *
المسافة بين المكان الحلم ، والمكان الطارد غير موجودة ، فكلاهما معبر عن مكان واحد ، إنه الوطن ، ولكن المسافة بين الذات المبدعة والمكان الحلم تتباعد كلما ابتعد الوطن عنها ، وحاربها .

الهوامش :

) محمد عبد المعطي ، ديوان " بنت ما ولدتهاش ولادة " ، منشورات فرع ثقافة الفيوم ، 2000 ، ص13،14، قصيدة " باحلم .. باغيب "
) السابق ، ص35 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " أو خطاوي العشق موت " ، نشر خاص بالشاعر ، 1998م ، ص3 ، 4 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " المكان جواك محاصر " ، دار اكتب للنشر ، القاهرة ، 2008م . ص 18 .
) مصطفى عبد الباقي " صباح يوم بيتكرر كثير " ، ديوان ، صادر عن سلسلة إبداعات العدد ( 253 ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2008م ، ص35 .
) السابق ، ص69 .
) سيد لطفي ، عادة كل يوم ، منشورات إقليم ثقافة الفيوم ، 2003 ، ص5 .
) المكان جواك محاصر ، ص24 .
) السابق ، ص6 .

الخميس، 16 سبتمبر 2010

مقدمة كتاب اللحمة والسداة للدكتور مصطفى ع

إضاءة أولى

عندما نطلق مصطلح " اللُّحمة والسَّداة " على النص الأدبي ، فإننا لا ننأى عن جوهر النص من حيث كونه نصا لغويا يحمل الكثير من الإشارات والجماليات والإيحاءات والدلالات ، بل إن هذا المصطلح يصب في صميم مفهوم النص، وفق النظرية النقدية الحديثة ؛ فالنص الإبداعي مثل النسيج ، يمكن رؤيته على هيئة النسيج : خطوط عرضية وهي اللحمة ، وأخرى طولية وهي السداة . وإذا كنا لا نتخيل نسيجا دون خطوط متقاطعة متلاحمة ، فإن الأمر يتشابه في النص الأدبي ، بل هو واقع كائن فيه، وما على الناقد إلا أن يقرأ النص في ضوء هذا التصور ، بأن يتخيل الخطوط / العناصر الطولية التي تشكل بنية النص ، والخطوط / العناصر الأفقية العرضية التي تربط هذه الخيوط فيما بينها ، عبر دوائر دلالية ورؤيوية .
ويأتي هذا الكتاب معززا هذا المفهوم بأن يتم التعامل مع النص الأدبي بوصفه نسيجا ؛ فنتأمل بناءه الرأسي ، والدوائر الدلالية الكامنة خلف هذا البناء ، وتتقاطع معه ، ونتمعن في إشاراته الأسلوبية وما تبثه من إيحاءات ودلالات ، وهذا عملية مكتملة ، لا تقف – بالطبع – على حدة عند الرأسي أو الأفقي ، بل تدرس لحمة النص وسداته بشكل شمولي ، في استكناه ما يختزنه النص من أبعاد ثقافية واجتماعية تفهم من شفرات النص ، وتضاء بتحليل الناقد .
إن هذا المفهوم يعيد قراءة النص كوحدة واحدة ، بعيدا عن القراءات التي تمعن في عرض جماليات الشكل ، أو القراءات التي تقف عند طروحاته الفكرية ، وقد يجرف القلم الناقد فيحمل النص ما لا يحتمل من رؤى .
وقد رأى الباحث أن تكون مدرستا الهرمنيوطيقا ( علم التأويل ) ، والسيموطيقا ( علم العلامات ) منهجين أساسيين يعتمدهما في قراءاته ، وهذا لا يعني أنه سيقتصر على هذين المنهجين فقط ، بل هو ساع إلى الاستفادة من مناهج نقدية أخرى مثل البنيوية والأسلوبية والسرد و النقد الثقافي والاجتماعي وغيرها ، وهذا ما يلمسه القارئ في مباحث الكتاب : النظرية والتطبيقية .
على صعيد آخر ، وفي ضوء عنوان الكتاب المتقدم ، فإن اللحمة والسداة لهما مفهوم أكثر خصوصية . فلكل نص علاماته ، وهذه العلامات قد تكون ذات إيحاءات خارجية ( إلى ما هو خارج النص في الحياة ) ، أو داخلية ( إلى ما هو داخل النص عبر ما رسخ في ذهن المتلقي في رحلته النصية ) ، ولا يمكن فهو العلامة النصية إلا بتأويلها وفق المعطيات النصية ، ونقاط الضوء التي يتلمسها الناقد في ثنايا النص .
وبعبارة أخرى أكثر دقة ، فإن العلامات النصية / السيميوطيقيا أشبه بالسداة عبر تتابعها الرأسي في النص ، وتأتي جهود تأويل النص تلحم هذه العلامات مع بعضها البعض ، وفي ضوء نسيج النص الكلي .
ويجدر بالذكر ، أن هذه الدراسات نشرت في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية عديدة( ) خلال عام ماض ، ورغم أنها كتبت في أزمنة متفاوتة ، ولكنها حوت فرضيات منهجية كانت تعتمل في ذهن الباحث – خلال فترة محددة - وسعى إلى اختبارها وتطبيقها في نصوص عدة ، وهي تطبيقات راعت أن تقدم نصوصا إبداعية: شعرية وقصصية ومسرحية جديدة نسبيا ؛ صدرت خلال العقد الأخير أو قبله بقليل ، وهي لأدباء عرب متعددي الأعمار والتجارب والعطاءات ، وتسعى هذه الدراسات النقدية إلى مناقشة هذه الإبداعات مناقشة جادة ، تستكشف جمالياتها ، ورؤاها ، وأيضا بعض مثالبها .
آمل من القارئ الكريم أن يجد بعض المتعة التي استشعرتها في مصاحبتي لهذه النصوص ، وهي مصاحبة نشأت عن علاقة دافئة جمعتني مع النصوص قراءة وتلقيا ومعايشة ، قبل أن تسطر مدادا على الورق .
والله دوما وأبدا من وراء القصد ،،،

قراءة في رواية نتوءات قوس قزح ، بقلم الشاعر / شحاتة إبراهيم


الاحتفاء بالهامش ورد الاعتبار له
قراءة فى رواية نتوءات قوس قزح للدكتور مصطفى عطية

أ. شحاته إبراهيم

السؤال الذي يطرح نفسه بقوه بعد قراءة رواية مصطفى عطية جمعة نتوءات قوس قزح هو هل يكفى النجاح الدرامي للرواية هل يكفى تألق الروائي فى صنع دراما متميزة هل يكفى ذلك وحده لإنجاح العمل الروائي إذا خلت الرواية من الجدل الفكري العميق والحوارات ذات الطابع الفلسفي أو الايدلوجى أو الثقافي أو حتى الجنسي؟ حيث اختار الكاتب لروايته شخصيات بسيطة جدا شخصيات ثقافتها سطحية ( وهذا ليس حكم قيمة بل هو توصيف ) لا يمكنها أن تكون صاحبة مقولات في أي شيء ... فى الفن أو السياسة أو الثقافة أو حتى الدين وطبعا ولا حتى في الجنس وهو الذي يجعل الرواية ينقصها هذا الجانب من الزخم والجدل الفكري العميق الذي يمنح الرواية قدرا من العمق يتجاوز مسالة سرد أحداث إلى إثراء عقول ....ربما يرتاح كثير من المتلقين لما حققته الرواية من نجاح وتميز على مستوى الحكى ونمو الدراما وتصاعدها ووجود حبكات درامية جيده لكن هناك متلقين آخرين ينتظرون ما هو أعمق وانضج ...ينتظرون جدلا عميقا بين الشخوص يمنحهم متعة فكريه اكبر..مع الاعتراف أن للكاتب الحرية الكاملة فى اختيار عالمه الروائي ومستوى ثقافة أبطاله

والرواية كعادة كتابات مصطفى عطية لها أهداف إصلاحية ولها انحيازاتها حيث أسهب فى التعريف بالطقوس الدينية التي يمارسها أبطاله وكأنه يحتفي بها وهذا انحياز,,, كما أسهب فى وصف التشوهات التي لحقت بشخوص روايته نتيجة اللهاث وراء المال وهذا انحياز أيضا لنقيض ذلك ,,, والغريب ان الشيء الوحيد الذي كان يحرك غرائز شخوص العمل هو المال واللهاث وراء الغنى والثروة : فهذا يسافر للخليج للعمل ويتحول إلى شخص جشع جدا وقد كان من قبل كريما وبارا .. وإبراهيم قبل الزواج بامرأة عجوز من اجل الفيزا وشفط ثروتها أيضا على حد وصف الرواية له .. وعم بدرية يطمع فى أرضها وهناك هؤلاء الذين يعطون الدروس الخصوصية بطمع وفجور واستسهال لا حدود له ...ففقط هو المال على الرغم من أننا اعتدنا أن اللهاث وراء السلطة أو الجنس يمكن أن يصنع أعظم الأحداث الدرامية وللحق فقد اشتملت الرواية على محفز آخر لأحلام وسلوك بعض شخوص الرواية وهو الحافز الديني وحب الله والطمع في جنته والخوف من ناره باستثناء ذلك يغيب طموح الناس هنا فى السلطة والجنس بشكل لافت
كما ينجح مصطفى عطية فى تقديم إضاءة قويه جدا عن سلوكيات طبقة معينة من المجتمع المصري إضاءة غير مسبوقة ….. من قبل قدم الروائيون عالم المخدرات عالم الراقصات عالم القتلة والسفاحين لكن نادرا جدا ما نجد عملا يخلص فى بنيته كلها لهذه الفئة النوعية من البشر الذين تمتلئ حياتهم بالصلاة والعبادة والطهارة والذين يدمنون الإخلاص والتضحية حتى آخر عمرهم ...ولعل مثل هذه الرواية لو تم ترجمتها سيندهش من يقرؤها من هذا العالم الذي رصده مصطفى ومن طبيعة العلاقات الموجودة فيه ومن نوعيه القيم التي يرتضيها سيندهش جدا من تلك
( الطقوسية ) التي تمارسها بدرية فهي تحافظ على زيارة القبور بشكل اسبوعى كما أنها تقوم بمناجاة من فى القبر من أحبابها وأهلها وتحدثهم بحميمية ورهافة بالغة وهى من اللفتات الفنية القوية بهذا العمل بل,, وهناك ما هو أكثر طرافة وإبداعا وهو إصرارها على تقديم تقرير أسبوعي للموتى عما فعله أهلهم خلال هذا الأسبوع فلان تزوج فلانة ماتت وكانت مريضة .... إنها محاولة جديدة وعجيبة لربط العالمين بهذا الشكل فى عمل فني

وعلى طريقة الفلاش باك تجلس بدرية بطلة الرواية تتذكر حياتها كلها منذ أن كانت فتاه صغيرة وتركها للتعليم لتربيه إخوتها الصغار بعد موت والديها مرورا بمراحل رشدها وشبابها وزواجها وصولا لعمادة أسرتها أو لنقل عائلتها بعد أن صارت تقريبا اكبر شخص بالعائلة وأنضج ولا عجب أن اختار لها الكاتب اسم بدرية من السبق والوضاءة معا والكاتب يعمل ذلك مع كثير من شخصياته وكأنه حقا لكل شخص نصيب من اسمه

والغريب انه قد اختار بطلة ليست صاحبة مقولات ولا تنظيرات ولا رؤى بالمعنى التقليدي بل صاحبة سلوكيات وقيم لا تتغير بمرور السنين تملك رصيدا من الحب يكفى للتواصل مع الأحياء والأموات معا …كانت حياتها منقسمة بين الأحياء والأموات لكنها استقرت أخيرا على الانحياز للأموات ووجدت لذة فى البقاء بينهم لدرجة أنها نسيت الغداء الشهي الذي تعده الأسرة وبقيت بين المقابر إلى الأصيل

إنه يقدم بطلة هامشية وطبقات هامشية وسلوكيات هامشية شاء لها الكاتب ان تكون محور عالمه الروائي لما تحفل به من أفكار وطقوس غير مألوفة تستحق الرصد والاهتمام وهو ما يعتبر بمثابة احتفاء بالهامشية ورد الاعتبار لها ..فهم منغمسون فى ذواتهم محشورون فى عوالمهم الضيقة الهشة ومشكلاتهم الهامشية فعلى سبيل المثال سافر رمضان ( أحد شخصيات الرواية ) إلى فرنسا وكان من الممكن ان يفتح ذلك مجالا لبعض الصراع بين عالمنا وعالمهم وكان ذلك سيثرى العمل جدا لكن الكاتب تعامل مع هذا التطور باستعجال واقتضاب...لأن تركيزه منصب على ما يحدث هنا لا ما يحدث هناك

ورغم ذلك ينجح الكاتب فى منع أبطاله من الانسلاخ عن النسيج العام أو إخراجهم خارج التاريخ بل يحاول طوال الوقت ربطهم بما يحدث فى المجتمع ككل من تطورات سياسيه تؤثر على القيم والأفكار بدءا من عصر الملكية والحقبة الناصرية وانتهاء بالعصر الحالي مبديا قدرا من الرفض للتجربة الناصرية ومبديا قدرا من الرجم لما جاء بعده من هجرة العقول وتفشى النظرة المادية فى حياه المصريين نتيجة لسفر بعضهم للدول العربية أو الأجنبية سعيا لتحسين حياتهم المادية وإيجاد أعمال تدر ربحا أكثر وما تبع ذلك من تفسخ القيم .........

وتظل هذه الرواية من أنجح كتابات مصطفى عطية القصصية على الإطلاق لوضوح امتلاكه لآلية القص الروائي بشكل حاسم وامتلاكه لقدر كبير من البساطة والتمكن في الكتابة وامتلاكه قدر كبير أيضا ً من المرونة والسلاسة فى التحرك داخل الرواية وتحقيق نموها الدرامي بلا قفزات غير مبررة أو مطبات مثيرة لقلق القارئ أو الناقد فالوعي الفني الجيد لديه منعه دائما من إحداث فجوات درامية أو فجوات في تركيب الشخصيات أو تناقضات فى سياق الحدث
كما يبرز فى العمل وجود اهتمام خاص جدا يمنحه مصطفى عطية للمكان فهو يرصد تفاصيله وتطوره يصف المقابر يتابع تطورها وعلاقتها بالعمران يتحدث عن الشوارع والميادين يذكر كثيرا من أنحاء الفيوم وملامحها ومميزاتها فهناك اهتمام خاص وجدي بالمكان وكأنه توثيق ..كما انه يضع يده على منطقه بكر في الفيوم وهى منطقه ( الصوفي )وما تحمله من خصوصية وزخم وتناقضات يمكن أن تكون محورا للكثير من رواياته القادمة....

وتحفل الرواية بالعديد من الإضاءات المتميزة التي تضيف كثيرا إلى العمل الفني وتمنحه خصوصية في الرؤية فهناك إضاءة إنسانية كبرى في قبول الآخر والتسامح مع تناقضاته والتعالي على اختلافنا الجوهري معه وهو ما حدث فى حب بدريه لـ (سوكا ) الفرنسية زوجه أخيها إبراهيم رغم أنها تبدو عجوزا واكبر من إبراهيم سنا وملابسها عارية إلى حد ما لكن بدريه اكتشفت فيها طيبه وكرما جعلها تحبها وتتمنى ألا يستمع إبراهيم لإغراءات من يدعونه للزواج عليها( احتضنت بدرية سوكا التي تعلمت بعض الكلمات العربية بنطق فكاهى ) ... ولا عجب بعد أن أحبت سوكا تلك العائلة أن تطالب إبراهيم هي نفسها بان يتزوج زوجة ثانية ومساعدته فى إحضارها للعيش معهما بفرنسا ...فهي لقطات إنسانية متميزة ...وتتبدى الإضاءة الثانية فى هذا المستوى من الرهافة فى رؤية بدرية لبطها ودجاجها الذي تربيه ( فراخى مثل عيالي أحبهم قبل ما أربيهم ) ( أنا اترك فراخى تبيت معي تحت السرير واضع الكتاكيت في الدولاب ) ( رأيت الكتاكيت تتجمع فى البرد تلتصق يبعضها تذكرت أنها دون أمهات فبكيت ) فعطف بدريه لا يقتصر فقط على أهلها وذوى رحمها بل يمتد إلى هذه الطيور الصغيرة الضعيفة فتمنحهم حنانا ورعاية دائمة أما الإضاءة الثالثة فقد سبق الإشارة إليها ألا وهو هذه التقارير الأسبوعية العجيبة التي تقولها بدريه للموتى عما جرى للأحياء من أحداث وهو أمر يطول الوقوف عند جمالياته ورحابة رؤاه الإنسانية وخصوصيته الإبداعية ...
ولا يمكننا أن نتناول الرواية بالنقد دون أن نعرج على البطولة المهمة للحوار فهو يبدو بطلا قائما بذاته بجوار أبطال الرواية .. والراوي لم يبخل على أبطاله بالبوح علانية بكل ما يريدون قوله تاركا مساحه قليله جدا للمونولوج اختص بدريه بها كلها تقريبا ..... ولا عجب فى احتفاء الكاتب بالحوار وجعله من البني الأساسية لروايته إذ أن الكاتب نفسه مصطفى عطية جمعة يحب الكلام والحديث والحوار ويحب الناس حديثه ولا تكاد تخلو ندوة من مطارحاته النقدية ...
ثم نأتي إلى نقطة الخلاف الجوهرية والوحيدة مع الروائي مصطفى عطية فهو يتبنى خيار كتابة الحوار بالفصحى أيا كانت الشخصية التي تتحدث به ..وله كما قلنا مطلق الحرية فى اختيار الشكل اللغوي المناسب لروايته ولنا أيضا حرية تقييم هذا الأداء اللغوي والإشارة إلى نجاحه أو إخفاقه ..ويجب أن نعترف فى البداية أنه بمجرد أن اختار الفصحى لغة لشخوص روايته سيكون قد وضع نفسه فى موضع مسائلة تقليدي .. لسبب بسيط هو أن الصراع بين الفصحى والعامية فى الحوار ليس وليد اليوم بل مر عليه فى حدود مائه عام تقريبا ثانيا انه ما من كاتب تبنى هذا التوجه إلا وصار أداة للنقد ما بين متفق معها ومخالف له ولكنه فى كل الأحوال سيثير جدلا نقديا جميلا معه ....فبدرية لم تكمل تعليمها فكيف لها أن تتحدث بالفصحى وحتى كل هذه الشخصيات التي نالت قسطا من التعليم هي لا تمارس الحديث بالفصحى فى حياتها فكيف يمكن علاج هذا التناقض ويظل السؤال هل إنجاح اللغة وتحقيق استقامتها وإبعادها عن أي هفوات أهم لدى المؤلف أم إنجاح الدراما التي لن تستقيم إلا بحوار على مقاس الحالة الدرامية ؟؟؟..فنجاح الدراما يكون بأن تكون لغة الحوار مناسبة تماما للحدث وللمتحدثين وليس أعلى منهم أو أسفل لكن الكاتب ينحاز دائما لقناعته فى كتابه الحوار بالفصحى ولا يقف فى استخدام اللغة عند فصاحتها بل وإلى جزالتها أحيانا ولو على حساب الخصم من درامية المشهد ...فمن الصعب تخيل أشخاص مصريين يقولون لبعض ( يا أبا احمد .. ويا أبا عاصم ) ....وقد يستخدم بعض الألفاظ المهجورة والتي لا يتحملها السياق الدرامي مثل ( دلف / يغذون السير / الثرى / البط رابض ).
ولا يتبقى سوى الاختلاف معه أيضا على اسم الرواية ( نتوءات قوس قزح ) وما فيه من مجاز كبير ...هذا الاسم برأيي لا يناسب أحداث الرواية ومحيطها المكاني وأرى أنه كان بالإمكان اختيار عنوان أكثر بساطة من ذلك ومباشرة ..على انه ينبغي التأكيد على أن كل هذا الاختلاف هو حول جزئية واحدة من هذا العمل ألا وهى رؤية الكاتب لاستخدام اللغة وصياغة عناوينه لكنه بعد ذلك يظل هذا العمل وكما اعترف كثيرون ممن قرأوه من أفضل أعمال مصطفى عطية الإبداعية وانه وضع يده على منطقة بها زخم درامي كبير ستمنحه مجالا لانجاز العديد من الروايات الناجحة واللائقة بموهبته وحماسه وتدفقه الإبداعي كواحد من انجح والمع أبناء جيله فى الكتابة بنوعيها القصصية والنقدية .......


كتاب جديد للدكتور مصطفى عطية بعنوان " اللحمة والسداة : في جماليات وهرمنيوطيقا وسيميوطيقا النص


الأحد، 27 يونيو 2010

نتوءات قوس قزح : رواية جديدة للدكتور مصطفى عطية



روابط نشر خبر الرواية :

جريدة القبس الكويتية 26 / 6 / 2010 http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=616919&date=26062010


موقع ميدل إيست أونلاين http://www.middle-east-online.com/?id=94402

صدرت رواية ( نتوءات قوس قزح) للكاتب والناقد د. مصطفي عطية جمعة عن مؤسسة سندباد للنشر بالقاهرة يونيه2010، في 120 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة الغلاف للفنانة العراقية رؤيا رءوف، وقدم الناشر الرواية بكلمة نقدية على الغلاف الأخير قائلا:
تُحلق بنا هذه الرواية في عالم شخصية "بدرية"، التي لا تملك إلا عطاءها نحو من حولها، مثلها مثل الملايين عنوان حياتهن البساطة، وسبيلها الكدّ، وثمرتها العطاء.
إنها رواية الزمن الممتد من طفولتها إلى كهولتها، وأيضًا رواية الزمن القصير الذي يدور في يوم واحد في حياة بدرية، مع حركة قوس قزح، فتقف على نتوءاته، متأملة محطات حياتها لتقول كلمتها الأخيرة.
وهي رواية الفيوم/ المكان في أعماق هذه المرأة التي شهدت تغيرات المدينة عبر نصف قرن، وأيضًا هي رواية الوطن عندما يكتفي أبناؤه بالصمت والترقب.
السيرة الذاتية

* د. مصطفى عطية جمعة
* من مواليد محافظة الفيوم ـ مصر
* عضو اتحاد كتاب مصر، ونادي القصة بالقاهرة
* دكتوراه في البلاغة والنقد الأدبي، كلية دار العلوم.
** نشر البحوث والدراسات والمقالات في:
* أولا المجلات: البيان (الكويت)، المحيط الثقافي (مصر)، الثقافة الجديدة (مصر)، أدب ونقد (مصر)، الرافد (الإمارات)، جذور السعودية، دبي الثقافية، المدى (دمشق)، الثقافة الشعبية (البحرين)
* ثانيا صحف الكويت: القبس/ السياسة/ الرأي العام، عالم اليوم
* يتولى الإشراف والمساهمة في كثير من المنتديات الأدبية والثقافية الإلكترونية
** حاز:
* الجائزة الأولى في الرواية، دار سعاد الصباح، الكويت، 1999م.
* جائزة في النقد الأدبي، جائزة الشارقة، 2000
* الجائزة الثانية في الرواية، نادي القصة، القاهرة، 2001 .
* جائزة لجنة العلوم السياسية، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 1999
* جائزة مركز الخليج للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة/ البحرين، 2002 .
* خمس جوائز في مسابقة الكويت في القصة والبحوث الإسلامية.
* المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس في النقد الأدبي، القاهرة، 2009م .
** صدر للكاتب:
* وجوه للحياة ـ قصص ـ إصدارات نصوص 90 القاهرة، 1997م
* نثيرات الذاكرة ـ دار سعاد الصباح ـ القاهرة/ الكويت، 1999م
* دلالة الزمن في السرد الروائي ـ نقد ـ الشارقة، 2001
* شرنقة الحلم الأصفرـ رواية ـ مركز الحضارة العربية2002م .
* طفح القيح ـ قصص ـ مركز الحضارة العربية القاهرة 2005م .
* أشكال السرد في القرن الرابع الهجري ـ نقد ـ مركز الحضارة العربية القاهرة 2006م
*أمطار رمادية ـ مسرحية ـ مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2007
* هيكل سليمان ـ إسلاميات ـ دار الفاروق للنشر القاهرة 2008م
* ما بعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة. الذات، الوطن، الهوية، منشورات مؤسسة الوراق للنشر، عمان، الأردن ( 2010) .
* نتوءات قوس قزح ـ رواية ـ سندباد للنشر بالقاهرة 2010
** تحت الطبع:
* الظلال والأصداء ـ نقد أدبي ـ منشورات اتحاد الكتاب بمصر.
* الرحمة المهداة ـ إسلاميات ـ مركز الإعلام العربي القاهرة.
* اللحمة والسداة ـ نقد أدبي.




تيار الوعي : رؤية مكانية زمانية ( مقال منشور في جريدة الراي الكويتية )

نشرت جريدة الراي الكويتية مقالا للدكتور مصطفى عطية على هذا الرابط :
نص المقال :
تيار الوعي : رؤية مكانية نفسية زمانية
د. مصطفى عطية جمعة
ربما يكون المفهوم المبسط لمصطلح «تيار الوعي»، هو المفهوم الذي قدمته «فرجينيا وولف» في مؤلفها الشهير «القارئ العادي»، حيث لمسنا تحديدا للمصطلح بشكل مبسط، صاغته مترجمة الكتاب بقولها: «إنه أسلوب التسلسل العفوي»، وحددته أكثر بـ «أنه أسلوب الشيء بالشيء يُذكر» (1) وهو في ظاهره مبسط، ولكنه ينطوي على جوهر هذا الأسلوب الفني، الذي أضحى من سمات القصص بخاصة، والفن بشكل عام في القرن العشرين. فعندما يذكر أحد الأمور، فإن العقل سرعان ما يتداعى إليه بشكل عفوي ما يتصل بهذا الأمر، سواء مما يحبه الفرد أو ما يكرهه. وفي تلك اللحظة، فإن قرار الفرد أو سلوكه سيتحدد بناء على تلك الخلفية المتداعية. وقد يكون الأمر جديدا عليه، وحينئذ تتوزعه أيضا مجموعة من المشاعر التي تتباين بين الرغبة في المعرفة والخوف من الجديد. وهذا لا شيء فيه على صعيد الواقع الإنساني المعتاد منذ فجر الخليقة، فما الجدل إذاً- إزاء ذلك المصطلح؟ مشروعية السؤال تأتت من المعرفة المبسطة السابقة، ولكن على مستوى الفن القصصي خصوصا كان الأمر جد مختلف. فالقص موضوعه منذ الأزل علاقة الإنسان مع أخيه، أو مع الطبيعة. وتلك العلاقة لم تكن مجرد سلوكيات، بل سبقتها دوافع ونوازع متعددة، ترسبت في داخل الإنسان، وحركت توجهاته. إلا أن القص كان يتوقف عند الوصف السلوكي الظاهري والتركيز على البعد الاجتماعي أو الظاهري في المسألة دون التعمق فيه. وبقي الإنسان كنفس ونزوع في عزلة عن السياق القصصي. فالقاص يعرض النتيجة دون ذكر العمق النفسي الذي يكمن وراءها. ولكن مع اقتراب أو انكفاء الإنسان على ذاته في عصر الثورة الصناعية، حيث كان القلق والخوف والإحساس بالتلاشي يسيطر عليه، أمام جبروت المدنية بمصانعها ومداخنها، بدأ يتأمل تلك النفس التي يحتويها جسده. ومن ثم كانت مكتشفات «فرويد» حول العقد الغريزية واللاوعي التي تحرّك الكثير من السلوكيات الظاهرة للفرد. ومحاولات «برجسون» لدراسة وشرح كل ما هو صادر عن الشعور. وثبت الأمر أكثر في دراسات «ليفي برول» وكشفه عن عقلية ما قبل المنطق عند الفطريين أو الإنسان البدائي (2). فكان ذلك فرجة لدراسة النفس وقراءة السلوك بطريقة مختلفة، حاولت أن تتوازى مع العلم المعاصر الذي انصب على الطبيعة يتحداها ويصارعها، ولم يستطع أن يكتشف إلا النذر القليل من هذا الكائن الآدمي نفسه، الذي يريد مجابهة الكون. ومن هنا كانت محاولات جيمس جويس، هذا الأديب القلق في حياته، المتمرد على كل ما يحيطه، والذي أدار السجال حول نزعاته وشبقاته، مثلما فجره بأعماله القصصية، فكانت أعماله نماذج مصغرة لواقعه المعاش، وبعضها كان تصويرا لكل نزعاته المتقلبة. أي أنه راح يقرأ ذاته بطريقة تختلف عن القصاصين السابقين، وهذا هو سر تفرده، منذ روايته «صورة للفنان كشاب» 1916، ثم «الفينيقيون يستيقظون» 1939، وأخيرا «عوليس» التي حوت قمة رؤاه الفنية وتمرده. لقد أراد أن يكتب رواية تصور الحياة المدركة وغير المدركة (3). والأولى تعني السلوك الظاهري الذي يحكمه الزمان والمكان والمادة، أما الثانية فهي الخلفيات والنوازع الواعية وغير الواعية التي تكمن وراء هذا. وبالتالي كان الأمر يُعَد فتحا على مستوى القص، فهناك تجارب وحالات نفسية لا نستطيع التعبير عنها، وحتى اللغة ذاتها لا تملك مصطلحات نقلها، وهناك لحظات بين اليقظة والنوم، والوعي والجنون، كلها تحرّك السلوك (4)وتلك هي الثورة التي فجرها «جويس»، وأجاد بناء قواعدها في قصصه، فكان النحت وإيلاج كلمات جديدة من لغات عدة (5)، وكان التعامل مع الأسطوري والشاذ والتراكمي. وفي الوقت الذي قد نخجل من طرحها وتسييلها على الورق، فكان لابد من مجابهة الأديب لذاته، كما يجابه الفيزيائي الكون، وإن كان البعض، توقف عند أطروحات «جويس» وتفجيره للذات الجنسية بصراحة تصل لحد التنفير، وتتبع كل ما هو غير مألوف في العلاقات الجنسية، فكانت النظرة المضادة له تنبع من الجانب الخلقي، وهي تمتلك الكثير من المشروعية، فلا الجنس هو المحرّك الغريزي الأوحد كما يرى فرويد-، ولا الحياة الإنسانية تتوقف عند الأعضاء الوسطى من الجسد، وليس التحرر الحقيقي، عندما يصبح إشباعها هو نهاية الأرب. فالقيم والمبادئ والمثل لها أيضا لذتها، فكما تجنح النفس للشهوة الحسية، تجنح أيضا للفضيلة اللاحسية. وهذا هو سبب الاختلاف مع «جويس»، بجانب الأسباب الفنية الأخرى، المتمثلة في كسر المألوف من الحكي القصصي واللغوي. وفي هذا يكون للفن والنقد كلمتهما التي لها الكثير من المشروعية أيضا.كما وجدنا أيضا- تقنيات القص التي مزجت المونتاج السينمائي (6)، لا باعتباره من الحيل الإبداعية، بل باعتباره عملية نفسية ذاتية في المقام الأول، فكل منّا يخضع ما يدور من أمور حوله إلى رؤية نفسه، فيرى الأشخاص وفق زمانه ومكانه وبيئته وأيضا أسطورته وفهمه لدينه ولخالقه. وحركات الارتداد «الفلاش باك» تتم في الوعي قبل أن تنقلها الكاميرات السينمائية. فـ«جويس» يتأمل ويستبطن اختلاجات جوانحه «من خلال عمليات عديدة: صريحة ومضمرة، ذهنية ودافعية، مزاجية وإدراكية، انعكاسية وتراكمية، متروية ومتسرعة، بطيئة ومتلاحقة...» (7) كما يوظف علوم وثقافات عصره في إبداعه. وكان البناء الفني الذي قدمه في أعماله، لا يقوم على حبكة واضحة، بقدر ما يقوم على الفهم المتعدد للقص في العمل الأدبي، الذي لا يلين من القراءة الأولى، بل يتأتى من القراءات المتتالية. وتبعا لذلك، أصبح المفهوم الجديد للفن لا يقوم على تقديم الأمل ووصف انتصار الخير ضد الشر وإن كان هذا يحدث، بل سعى الفن إلى تقديم المزيد والدقيق عن الحالة والواقع الإنساني في لحظات الحكي، تقديما عميقا دون تزييف (8)، ويترك الأمر بعد ذلك للقارئ يستنتج ما يريد من خلال تجربته هو كقارئ. فتحول القارئ إلى مبدع إيجابي غير مسترخ. وهذا بالطبع كان يحدث على درجات عديدة في الآداب والدراميات السابقة، ولكنه أضحى مع رؤية المبدع المعاصر، من الأمور التي تصاحب المبدع في لحظات إبداعه، كما هي تصاحب القارئ في تلقيه. فالفهم لذات الإنسان، لم يقف عند الذات المبدعة فقط، ولا عند تشريح شخوص القص، بل تعداه إلى إشراك المتلقي في النشاط الإبداعي- على اعتبار أن الإبداع لا يُفسَّر من ركن واحد، ولامن رؤية مسبقة، بل هو جزء من الفعل الإنساني الذي لا يخضع لدافع نفسي واحد أيضا. وبذلك صارت وظيفة الفن كما يقول أرنست فيشر: « فتح الأبواب المغلقة، لا ولوج الأبواب المفتوحة»، أي البحث عن المستغلق في أعماقنا ومكنوناتنا، وهذا ما دفع ماركيز إلى أن يؤكد عليه بقوله: «يجب دفع القص إلى أقصى حد، ليتجاوز كل واقع» (9) والواقع هنا كما أرى كل رؤية لا تتعمق الظاهر والسلوك، وتكتفي برصده فقط.ولذا نرى أن مصطلح «تيار الوعي» ليس دقيقا؛ فهو يقصر التداعي على ما يعن للعقل في لحظة وقوع الحدث، فلا المتداعي من الوعي يكون بوعي أو بمنطق من صاحبه الفرد، بل إن لحظة التداعي هي حرة في تكوينها، تتخطى مشاعر الحب والكره، وتتآلف مع اللاوعي في تكوين الدافع والسلوك، وهذا ما وجدناه ونجده في الإبداع، حيث تتقاذف العقل والنفس عشرات من الأمور العقلية واللاعقلية، ومن هنا يكون مصطلح «تيار التداعي» أدق وأشمل، فهو يشمل حركة وتماوج النفس بين الوعي واللاوعي، والعقلي والسلوكي. أما عن الزمان، في هذه التقنية، فإننا نلحظ أن هناك زمنين، زمن الحدث الواقع، و«زمن التداعي»، فالأول هو كائن ثابت خاضع للمقياس العقلي البشري، نستطيع تسجيله ورصده والتحكم فيه، أما الثاني «زمن التداعي» فهو يتخطى كل المقاييس المنطقية، ليحلّق في الزمن المطلق، لأن الحدث المتداعي هو البطل، وهو الذي يجمع في تداعيه أشتاتا من الطفولة والشباب والشيخوخة، بل ويجمع الأمنيات المستقبلية لصاحبه، كل هذا يتم في لحظات قد تكون دقائق وفقا للمقياس البشري أو ساعات، ولكنها تمتد بامتداد العمر، بل وتتخطى هذا العمر البشري، حين يتداعى على العقل والنفس ما توارثه من أساطير وعادات وقيم وخرافات، وفي هذا، يكون الزمن ممتدا عبر الرصيد الإنساني بكل ما عرف وترسب في أعماق الفرد. والأمر نفسه يكون مع المكان، فهناك المكان الواقعي، الذي يكون الحدث الظاهر يحدث فيه، وهناك «مكان التداعي»، وهو يشكل الخلفية المادية المكانية للأحداث المتداعية في النفس عند استثارتها بالحدث الخارجي، وقد نراه في النفس واضحا بتفاصيله وموجوداته، أو غير واضح حينما يكون المتداعي من الأساطير أو الكوابيس أو المشاعر المحبة أو الكارهة. إذاً، يكون «تيار التداعي» ليس مطلقا في كل الأحوال، فهناك تيار زماني متداعٍ مقيد، وهناك آخر مطلق، فالمقيد يكون مقيدا باللحظة الزمانية الواقعية التي استدعته، مثلما أن يرى الفرد حدثا لثورة، فيذكّره بكل ما اختزنه من الأحداث الثورية التي عاشها في حقبات من حياته، سواء اتفق أم اختلف إزاءها فهذا هو المقيد. في حين عندما يخلد الفرد نفسه إلى ذاته، يكون هناك الكثير من الأمور المتداعية، دون رابط موضوعي أو زماني محدد، وكما يحدث في النوم والأحلام، تترك النفس على سجيتها فيكون التداعي هنا مطلقا دون قيد.وينصرف الأمر بالتالي على المكان، وهو مصاحب للزمان والحدث، لأنه يمثّل الإطار المادي الذي يحتويهما، وقد يكون مقيدا أو واضح المعالم والقسمات «كما في الحدث الثوري السابق، حين يذكر الفرد ما رآه بعينيه من مظاهرات ومسيرات في أماكن بعينها»، أو يكون المكان غير واضح المعالم، بل هلامي.وتتبقى الأشياء والجمادات في الحدث الواقعي، والحدث المتداعي، حيث نرى أن ثمة ترابطات بين الشيء الواقعي وهو مجرد جزء، قد يستدعي جزءا آخر يشابهه من أعماق النفس، وقد يستدعي أيضا كلاً يشمل هذا الجزء. وفي الوقت نفسه، فإن التحاور العقلاني يكون واردا أيضا لحظة التداعي، أي أن العقل يكون حاضرا بأشكال مختلفة، سواء بعقد المقارنة بين الواقعي والمستدعى، أو بالانتقاء من الأمور المستدعاة، للربط بينها وبين الحدث الواقعي، أو إقامة حوارا بين الرؤية المترسبة في العقل، وبين الحدث الواقعي.* كاتب وناقد مصري الهوامش: (1) فرجينيا وولف. القارئ العادي. ت/ الدكتور عقيلة رمضان. ص 4. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1971.(2) انظر. د. محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث. ص 489. نهضة مصر للطبع والنشر. د. ت. (3) انظر. إيفور إيفانس. مجمل تاريخ الأدب الإنكليزي. ت/ د. زاخر غبريال. ص 177. سلسلة الألف كتاب الثاني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1996.(4) انظر، د. محمد غنيمي هلال. مرجع سابق. ص 488.(5) انظر. د. طه محمود طه. موسوعة جيمس جويس. ص 242، 243. دار القلم. بيروت. 1975.(6) انظر. المرجع السابق. ص 246.(7) د. شاكر عبد الحميد. الأسس النفسية للإبداع الأدبي. ص 17. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1992.(8) انظر. د. محمد غنيمي هلال. مرجع سابق. ص 487.(9) انظر. د. شاكر عبد الحميد. م.

رؤية نقدية : الكتابة بالإحساس والحواس ( منشور على ميدل إيست أون لاين )

الكتابة بالحواس والإحساس
كتابة الإحساس هي تسجيل الأديب لكل ما يعتمل في نفسه وما يفكر فيه فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره.
على ( ميدل ايست اونلاين ) على هذا الرابط :
د. مصطفى عطية جمعة
عند التأمل في الكثير من الكتابات القصصية والشعرية، والنثرية بشكل عام، نلاحظ أن الكثير منها يندرج تحت ما يسمى "الكتابة البصرية" أو "كتابة الإحساس والمشاعر فقط". وفي هذا إهمال لحواس الإنسان، وهي حواس فاعلة، وغير مقتصرة على عمل جوارح الأديب فحسب، بل تشكل مع باقي عوامل الإدراك والشعور أساسًا قويًا في فهم العالم والأشخاص والأشياء.
( 1 )
الكتابة البصرية هي الكتابة التي تعتمد الوصف لغة في السرد، فيعمد الأديب إلى الوصف الدقيق لكل للمشهد، بكل جزئياته وتفصيلاته، وعند التمعن في هذا الوصف، نجده يقتصر على استخدام حاسة البصر، فعين الأديب هي الراصدة، والأديب يقيم الأمور وفقًا لعيونه هو، أو عيون أبطاله في العمل الإبداعي. فيظل المتلقي واقفًا عند حدود العمل الأدبي: حدود المكان، حدود الزمان، الوصف للشخصيات خارجيًا، وحركاتها على صعيد المكان والزمان، وقد تتداخل حاسة السمع قليلاً في الوصف، ومثال ذلك:
"دخلتُ الغرفة، الكراسي مصفوفة في نظام، باقة من الزهور في المزهرية، ألوانها متنوعة، ثمة أوراق في ركن قصي، نظرت إليها، كانت مجلات وصحفًا قديمة، متداخلة الأوراق، يصلني صوت المذياع بموسيقى صاخبة، تمشيت جيئة وذهابًا، ثم جلست على كرسي، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة، وتركني، أمسكت مجلة قريبة، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة".
في النص السابق نلاحظ: وصف لكل محتويات الغرفة، ونرصد عين البطل تجول كالكاميرا، تنقل لنا كل شيء، وتعلل سبب وجوده، وتحركاته في الغرفة.
إن هذا اللون من الكتابة البصرية، يجبر المتلقي على الوقوف الظاهري أو بالأدق التسطح في تناول العمل، فهو منشغل بالتفاصيل، جاهل بما في نفس البطل. ويكثر هذا اللون في كتابات الأدباء الشبان، حيث يرغبون في توصيل كل شيء مرئي إلى القارئ، فهو يفترضون أنه جاهل بكل شيء، فعليهم القيام بالمهمة، فيغرقون في الجزئيات البصرية والحركية.
كما نجدها بكثرة لدى كتابات الروائية والقصصية التي تعنى بتقديم عالم مكاني جديد – نسبيًا أو كليًا – على القراء، مثل عالم الصحراء أو المناطق النائية في الريف أو أمكنة المهمشين، وهذا اللون يتناسب معها، ولكنه يظل قاصرًا عن تقديم الفهم الكلي للعالم والأشخاص.
كما نراه أكثر في عالم السينما: ففي الأفلام العربية القديمة، تحرص الكاميرات على تصوير حركات الشخوص في المكان، وتعنى برصد المكان بما فيه بشكل دقيق بجانب تتابع الأحداث الدرامية.
كما نراه في الفنون التشكيلية؛ في اللوحات التصويرية، خاصة في حقبة مايكل أنجلو ودافنشي، حيث الاعتناء بتفاصيل الجسد والوجوه، وكل ما في المكان.
ونراه أكثر وضوحًا في الأعمال الفنية الأوروبية التي صوّرت العالم الإسلامي والعربي ابتداء من القرن السابع عشر، حتى أوائل القرن العشرين. وهي لوحات سجلت بشكل دقيق حياة العرب والمسلمين، بريش الفنانين الأوروبيين الذين وفدوا للمغامرة والبحث عن عوالم فريدة عجيبة تبهر الأوروبي.
وكيلا يظن البعض أن الكتابة البصرية (أو التعبير البصري) لا ينقل أحاسيس ولا أفكار، فهذا غير حقيقي، فهو ينقل الإحساس والفكر، من خلال ما يستنبطه المتلقي من الوصف، وهذا استنباط غير كامل، لأنه يجعل المتلقي أسيرًا في فهمه ومشاعره للوصف المقدم إليه من المبدع والفنان.
( 2 )
أما كتابة الإحساس فهو: تسجيل الأديب لكل مشاعره، وما يعتمل في نفسه، وما يفكر فيه، فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره، بينما ينزوي المكان بوصفه، والجسد بحركاته، والزمان بساعته. ومثال لذلك:
" إنني في حيرة من أمري، أعيش قلقًا وسآمة، كلما غدوت إلى مكان أشعر بانقباض نفسي، أكره الناس، الأشياء، العالم، أريد العزلة، أن أعيش في ذكريات الطفولة الجميلة، هربًا من واقع أليم، واقع الفقر، وقلة الشيء، وفقدان الأمل في الحياة".
صحيح أن نقل المشاعر مطلوب، وهدف يسعى الأديب لترسيخه في متلقيه، ولكن هل الإنسان يحيا وينظر بمشاعره فقط، ويحيا وسط مشاعره فقط، أم أنه يحيا في معية الناس والأشياء، وسط مكان وزمان، وهو يتعامل مع هذا كله بأحاسيسه وعقله.
( 3 )
إذن الكتابة بالحواس والإحساس هي: التعبير بكل حواس الإنسان وجوارحه عن اللحظة المعاشة، قدر المستطاع، ووفقًا لما يراه المؤلف الضمني كي تصل رسالته إلى المتلقي كاملة. فيكتب مستعينًا بحواس: البصر في الوصف المكان والأشياء، وحاسة السمع في نقل مختلف الأصوات في المشهد، وحاسة اللمس لإشعارنا بملمس الأشياء: خشنة أو ناعمة، حارة أو باردة ..، وحاسة الشم في نقل رائحة المكان والأشياء مثل: النباتات والروائح المتطايرة في الجو وروائح المصانع والمطاعم والمستشفيات والموتى ..، وحاسة التذوق في إيصال ذائقة الأشياء التي يمكن تذوقها، كل هذا بفؤاد المبدع وعقله، وفي هذا الإطار هناك عدة نقاط مهمة:
الأولى: إن توصيل الأديب لهذه الحواس عبر الكتابة تتم في معية: الإدراك والشعور، فالإدراك: هو التصور العقلي والفهم للمعبر عنه، والشعور: أحاسيس المبدع في تعامله مع الأشياء والمكان والزمان والشخوص والأحداث.
الثانية: وهي مترتبة على النقطة الأولى؛ فإن الأديب قبل أن يمسك القلم، عليه أن يتعايش ويتأمل الموقف المعبر عنه، بكل حواسه، لا يكتفي بالسرد المتتابع المتلاحق الوصفي، بل يكتب بكل حواسه، يجعل المتلقي عائشًا في اللحظة الإبداعية بكل كيانه.
الثالثة: إنها كتابة معقدة، تحتاج إلى قاموس لغوي ثري يمتلكه الأديب، وقدرة خاصة على صنع التعبيرات والتراكيب اللغوية التي تنقل بدقة الحدث بكل متعلقاته النفسية والفكرية والشيئية.
الرابعة: إن هذه الكتابة ذات صلة بتراسل الحواس، وهو مصطلح أسلوبي يقصد أن يجمع التركيب اللغوي ألفاظًا ذات صلة بعدة حواس في آن، منطلقة من مفهوم الإدراك الكلي المتداخل للشيء، فعندما نقول: الوردة جميلة، لا نقصد الشكل (حاسة البصر فقط)، بل نقصد: الرائحة (الشم)، والرقة (اللمس)، والبهجة لرؤيتها (الشعور). ومن الممكن أن نقول: "الوردة تأخذنا إلى فضاء جميل" أو "نعايش الوردة الحلوة" .. إلخ.
الخامسة: إن هذه الكتابة لا تشمل كل أنواع الكتابة في العمل الأدبي، بل يتطلبها الموقف الإبداعي ذاته، فهناك مواقف يقتصر التعبير فيها على حاستين أو ثلاث، وهناك ما هو أكثر أو أقل، هذه يقدرها المؤلف الضمني في إبداعه.
السادسة: تتطلب هذه الكتابة أيضًا ما يسمى بظاهرة "تداخل الضمائر"، وتعني تعبير المبدع بضمائر مختلفة: المتكلم والمخاطب والغائب في الموقف الواحد، بهدف توصيل كل الأصوات للمتلقي، دون غلبة ضمير بعينه: المتكلم مثلا أو الغائب، لأن التعبير بضمير واحد يعني ضمنًا استخدام حاسة أو حاستين على أقصى تقدير.
السابعة: إن هذه الكتابة متحققة في إبداع الكثير من المبدعين، مثل: نجيب محفوظ (في مرحلتي التجريب والنضج)، محمد عفيفي مطر (مجمل أشعاره)، محمد الماغوط (شعره ورواياته خاصة رواية الأرجوحة)، أمل دنقل (في دواوينه الأخيرة) وكثيرين غيرهم ...، كما أنها موجودة في كثير من الكتابات التراثية وتنتظر البحث والتنقيب عنها.
الثامنة: إن الكتابة بالحواس والإحساس، لا تقتصر على الإبداع الأدبي، بل تتخطاه إلى كافة الفنون، فجوهر المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي هي التعبير بالحواس والإحساس باستخدام الريشة أو خامات أخرى. وكذلك في الفن السينمائي: ونلاحظ سينما المخرج محمد خان (مصر) كيف تكون اللقطة السينمائية مشحونة بكل تعبير حركي وشيئي وجسدي، ولعل فيلم "أحلام هند وكاميليا" خير مثال: فالمشاهد دقيقة في لفظها، عميقة في دقائقها، تنقل أحاسيس الأبطال، ورد فعل الشارع؛ وغيره كثيرون في أنحاء العالم.
ومثال لكتابة الحواس والإحساس:
"دخلتُ الغرفة، الكراسي ناعمة الملمس، كسوتها لامعة، وهي مصفوفة في نظام، باقة من الزهور المتألقة في الزهرية، تبعث الكآبة؛ لذبولها وشحوب ألوانها، وانطفاء روائحها، ثمة أوراق في ركن قصي، عانقتها عيناي، كانت مجلات وصحفًا قديمة يفوح العطن من عناوينها التي تروج لشعارات حكومية سئمت النفس من تكرارها، الأوراق متداخلة، يصك أذني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ملأت فؤادي بالغثيان، تمشيت جيئة وذهابًا، الجدران تلفظني، ثم جلست على كرسي، كسوته شوك في ظهري، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة، وتركني، أمسكت مجلة قريبة، الزمن ثقيل الخطى، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة، كرهت هيئتها".
( 5 )
إن الأزمة التي صنعت هذا اللون من الكتابة تعود إلى: شعور المبدع الحقيقي أنه متوحد النفس مع عالمه، ورسالته الإبداعية تتمثل في نقل هذا العالم إلى متلقيه ومن هنا فإنه يحترق بالكلمة أو بالريشة أو بالكاميرا من أجل متلقيه. لعل هذا هو ما دفع أحد المبدعين العرب في الأردن ومصر إلى أن يسجل نصوصا إلكترونية؛ تجمع الصورة والكلمة والموسيقى في نص واحد.

السبت، 29 مايو 2010

المكان : المفهوم والسيميوطيقا ( منشور بجريدة الراي الكويتية 20 / 5/2010


مقال جديد في جريدة الراي الكويتية اليوم الإثنين 24 / 5 / 2010م للدكتور مصطفى عطية
على هذا الرابط http://www.alraimedia.com/alrai/Arti...&date=20052010وإليكم نص المقال :
المكان : المفهوم والسميوطيقا
د. مصطفى عطية جمعة
يعتري مصطلح المكان إشكاليات في الدراسات النقدية وهي ناتجة عن الترجمة الغربية للمصطلح «Space، Espace»، فلم يتعامل النقاد الغربيون مع مصطلح «المكان» إلا عرضا، وقد ترجم بعض النقاد العرب المصطلح الأجنبي بـ «الفضاء»، وهو يعني في طياته الخواء والفراغ «Emptiness»، وأيضا يعني الخلاء المكاني، والبعض يترجمه بـ «الحيز»، ويشمل معطيات المكان: النتوء، والوزن، والحجم والشكل، وهو الشيء المبني في فضاء مكاني، وهو أيضا الامتداد المتصور، ويمكن أن يدرس من خلال وجهة نظر هندسية (1)، فالفضاء بمثابة الوعاء الضخم الذي يستوعب بداخله الأمكنة المختلفة: الكون بمجراته ونجومه وكواكبه، والأرض بما عليها، وإن كانت دلالة الفضاء تعني في الذهنية العربية: الفراغ والخواء وأيضا العدم. ولفضّ هذه الإشكالية، ما بين إطلاق تسمية المكان أو الحيز أو الفضاء، نعود إلى المفهوم المقصود بدايةً، فهو يشير إلى دلالة الموضع الذي يعيش عليه الإنسان على سطح الأرض، وهذا الموضع يشمل موقع سكنه، وعمله، وسائر أوجه نشاطاته وعلاقاته الإنسانية بكل تداخلاتها وأبعادها، ويتسع أكثر ليشمل الطبيعة من حوله: صحراء، غابات، أنهار، أمطار... وهو تنعكس على تكوينه، مثلما تتأثر بأنشطته وحياته. والدلالة اللغوية في المعاجم العربية، تشير إلى أن المكان هو: الموضع، وتعني التوسع المكاني، وتطلق على وكنات الطير والمنازل ونحوها (2) وأيضا تعني الاستقرار والوجود والثبات في مكان ما وجمعها أمكنة وأماكن (3)، وبالتالي، فإن المعنى هنا يتفق مع الدلالة المبتغاة، فلا بأس من إطلاق تسمية المكان عليها، فالعبرة بالدلالة المقصودة والمفهومة لدى الباحث والقارئ، خاصة أن المصطلح مستخدم في الدراسات الأدبية العربية منذ عقود، واستقر استعماله بشكل كبير. فعندما يذكر المكان فهو: موضع العيش والإقامة، وموضع السفر والهجرة، وهو الحيز الذي يحوي الإنسان وأنشطته، ويتسع ليشمل الأرض بما عليها. وبعبارة أخرى، فإننا نربط المكان بالرؤية الأدبية والنقدية المتفق عليها، وننأى به بعض الشيء عن المقصود الحرفي للكلمة الأجنبية، التي قد تشمل الفضاء الخارجي، وهذا ما يؤيده الفلاسفة وبعض العلماء، بتحجيم خصائص الفضاء «الحيز» وقصرها على مجرد علاقات بين الأجسام الحقيقية، فالمكان «مجرد وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن هذه العلاقات وهم يرون أن العلاقات المكانية بين الأجسام لا تحتاج إلى وجود شيء ملموس قائم بذاته اسمه المكان إلا بقدر ما تحتاج العلاقة بين مواطني بلد ما شيئا ملموسا اسمه المواطنة «(4). وهذا يعني أن المكان مجرد اصطلاح دال على وجود، وهذا الوجود: بشر، بيوت، مصالح، تشابكات، تعاركات، ومن وراء ذلك هناك أفكار ومشاعر وأحاسيس ورؤى تتوالد، وهذا ما يترسخ في أعماق الأديب، لتملأ وجدانه، ويفيض بها مداد قلمه. لذا فإن مفهوم المكان في الأدب لا يفهم من خلال الوصف المادي فحسب، وإنما في العلاقة الجدلية التي بين الإنسان/ البطل/ الأديب والمكان، وفي العلاقة الدافئة أو الحادة، التي تستشعرها الذات الأدبية في علاقتها بالمكان، وهذا ما سيتم تفصيله بعدئذ. المكان/ الزمان: قد يكون هناك تصور أن لا علاقة بين المكان والزمان؛ فشتان بينهما، فالمكان مادي، أما الزمان فهو يدرك ويلاحظ، أي غير مادي، وإن كان يمكن متابعته وقياسه بوسائل مادية. ولكن علماء الرياضيات والفيزياء لهم رأي مختلف في هذا الشأن، حيث يكاد تعريفهم للمكان يتماثل مع تعريفهم للزمان، فهو يرون أن الحركة تعد حلقة وصل بين الزمان والمكان، فدراسة حركة الأجسام والإشارات الضوئية تكشف عن أن المكان والزمان ما هما في الواقع إلا مظهران لبنية واحدة تسمى المكان/ الزمان(5) أو الزمكانية إذا جاز التعبير، وهذا لا يبدو إلا بالتأمل فيما حولنا، فالسفر، أيا كان برا، بحرا، جوا، وفي الفضاء الخارجي؛ يعبر عن الوحدة الزمانية والمكانية، فإذا كنا نقطع الطريق مسافة مئة كيلو متر لمدة ساعة، فهذا يعني مكانا وزمانا متحدين، والأمر نفسه في حركاتنا في الفضاء المكاني، فنحن نقضي حوائجنا بحركة أجسادنا في زمن ما على مكان ما، وهكذا يكون الزمكاني، وبه نقرأ الوجود من حولنا، ونقرأ المكان قراءة شاملة، لا تحصره في المادي فقط، فهو يشمل الزمان والإنسان أيضا.وهذا ما ينطبق على الحدث في القصّ، فالحدث لا يختزل في مجرد الحركة، وإنما هو دال على نشاط الإنسان، في فضاء المكان، خلال فترة من زمن، أي تتطور قراءتنا لأحداث القصص من فهم الحدث كحدث إلى تحليل المكان ودلالته، والزمان وأثره. على جانب آخر، فقد ثوّرت النظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان بوصفهما وحدة واحدة، متجاوزة ما طرحه نيوتن؛ الذي رأى أن المكان ليس مطلقا في وعينا، بينما الزمان مطلق، فالمكان لديه نسبي أما الزمان فثابت، ثم يجيء أينشتين ليعارضه مؤكدا أن الزمان والمكان نسبيان، فكل إنسان لديه إدراكه الخاص للزمان، الذي يشابه المكان في نسبيته. وكي تتضح الصورة أكثر، فإن إطلاق شعاع من جهاز رادار على الأرض إلى القمر، سيختلف إدراكه زمانيا ومكانيا فلو حسبنا مسافة الشعاع من مركز الشعاع على الأرض إلى القمر ستكون مختلفة عندما نحسبها ونحن واقفون بعيدا عنها عند القطب الشمالي مثلا، ونفس الأمر في الزمان، فرؤيتنا لزمن الشعاع يختلف من مركز الأرض عنه من قطبي الأرض وهكذا (6). ولو طبقت هذه النظرة على الصعيد الأدبي، فإن تعاملنا مع المكان يختلف من فرد لآخر، رغم الاتفاق على مكوناته، فإدراك البدوي للصحراء التي عاش فيها وتعامل معها ؛ يختلف جذريا عن إدراك الجيولوجي لها، وعن إدراك عالم النبات، وأيضا يختلف العصر زمنيا في وعي من عاشَه، عن وعي المؤرخ الذي يسجل أحداثه، أو من يقرأ هذا التسجيل في عصور لاحقة. إذا وعي الذات للمكان، يختلف زمنيا، فلا يقرأ المكان بمعزل عن الزمان.سيموطيقا المكان: تحيلنا السيميوطيقا «علم العلامات»، في قراءتها للمكان إلى إدراك جديد للمكان، يتجاوز ماديات المكان إلى علامات المكان؛ فهو «ليس فضاء فارغا، ولكنه مليء بالكائنات وبالأشياء... والأشياء جزء لا يتجزء من المكان، وتضفي عليه أبعادا خاصة من الدلالات «(7)، فالمكان الذي نحيا فيه ليس سلبيا ولا صامتا، ولكنه يحمل دلالة تتخلل جميع الأبعاد والإحداثيات والأركان والظواهر الطبيعية والأشياء، وهي تتمثل خير تمثيل في الفن (8)، فعندما نذكر أشياء من المكان فهي بمثابة علامات عليه وعلى مكوناته، فلا يحتاج المبدع إلى ذكر تعريف تفصيلي لمدينة شهيرة، وإنما يكتفي باسمها، وبعض معالمها في سياق نصه، وتكون هذه المعالم إحالات تعطي أبعادا معرفية وتأويلية ونفسية للقارئ. فتتم دراسة الإشارات المكانية ضمن منظومة «سيميوطيقية» علاماتية كاملة، وفي ضوء معطيات النص الجمالية والرؤيوية، فليست الأطلال في الشعر الجاهلي- الواردة مجرد إحالات معرفية بل إشارات مكانية، إنها رموز على زمن تولى، كان للشاعر علاقات مع شخوص عاش معهم فيها، وكانت الأطلال كلما مر بها شاهدة على حقبة زمنية، بكل تداعياتها وأحداثها. وتختلف هذه العلامة من شاعر لآخر، مثلما هي تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، فتكون علامة مميزة للنص، وتفهم من سياقه، وتعكس نفسية شاعره. إن كل نص له علاماته المكانية، التي تكون وسيطا بين المبدع والقارئ، وتبدأ هذه العلامة بمعلومة مفصلة أكثر، ثم تتحول في متن النص إلى علامة على هذه المعلومة، وكلما ارتبطت الأحداث بهذه العلامة المكانية، ازدادت إيحاءاتها كلما ذُكِرَت في النص، ويتفرع عنها في ثنايا النص علامات فرعية، تشكل في مجملها شفرات مكانية، تساهم في إنتاج الدلالة بشكل إضافي، إذا قرئت بعناية. فالشفرات السيموطيقية «Code « توفر إطارا تصوريا، تصبح العلامات فيه مفهومة، أي أنها أدوات تفسيرية تستخدمها الجماعات أو التجمعات التأويلية» (9). وكي يتضح المفهوم أكثر، فإن المبدع مثلا- يذكر القرية التي تدور أحداث قصته فيها، وقد يشير إلى موقعها، وطبيعة سكانها في متن النص، ثم يبرز أهم علاماتها المكانية؛ وهذا نوع من التمهيد المكاني للأحداث، ثم يكتفي بذكر علامة من القرية «منزل العمدة مثلا»، مع أحداث وشخوص فيه، يغلب عليهم الظلم والجبروت. فيمتزج منزل العمدة في وعي المتلقي بالظلم، فإذا ذكر بعدئذ، يأتي محملا بشخوصه وإيحاءاته التي تترسخ في وعي القارئ، وتظل معه كلما استدعى هذه الرواية في ذاكرته، أو وردت العلامة في سياق آخر.
_______________________
* كاتب وناقد مصري Mostafa_ateia123@yahoo.comالهوامش(1) في نظرية الرواية «بحث في تقنيات السرد»، عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص141، ص14. (2) لسان العرب، ابن منظور، مادة مكن، وأيضا المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2008م، ص588، والقاموس المحيط، الفيروزأبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996م، ص1594. (3) لسان العرب، مادة كون، والوجيز مادة كون، ص546. (4) المفهوم الحديث للزمان والمكان، ب. س. ديفيز، ترجمة د. السيد عطا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص12. (5) السابق، ص13. (6) تاريخ موجز للزمان، ستيفن هوكنج، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001، ص30، 31. (7) القارئ والنص «العلامة والدلالة»، سيزا قاسم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص48. (8) السابق، ص50. (9) معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات «السيموطيقا»، دانيال تشاندلر، ترجمة: الدكتور شاكر عبد الحميد، منشورات أكاديمية الفنون، القاهرة، 2002، ص30.

الأحد، 18 أبريل 2010

مجلة البيان السعودية تنشر بحثا جديدا للدكتور مصطفى عطية بعنوان : المسجد الأقصى ومخططات التخريب والتهويد : قراءة توثيقية

المسجد الأقصى
ومخططات التخريب والتهويد والسياسة
قراءة توثيقية

د.مصطفى عطية جمعة
Mostafa_ateia123@yahoo.com
( نشرت مجلة البيان الإسلامية السعودية في عددها الجديد ؛ جمادى الأولى ، 1431هـ ، إبريل 2010م ، رقم 273، بحثا جديدا للدكتور مصطفى عطية وهذا هو البحث )

منذ سقوط القدس الشرقية في أيدي اليهود عام 1967 م ، والصهاينة يسعون إلى تنفيذ مزاعمهم الدينية حول الهيكل ، وحول تهويد القدس ، ويمكن أن نرصد أبرز الاعتداءات على الأقصى ومحيطه في نقاط مركزة ، من أجل المزيد من التعرف التفصيلي على هذه الاعتداءات .
فعند سقوط المدينة ، قامت إسرائيل بتغيير معالم القدس في الطرق وعملت على إزالة الأحياء والحواري العربية ؛ بدعوة تيسير زيارة اليهود لحائط المبكى، فأزالت حارة المغاربة التي تجاور المبكى ، وبدأت في إجراء الحفريات حول وتحت المسجد الأقصى بدعوة البحث عن آثار هيكل سليمان ، مما هدد المسجد الأقصى في أساساته . فتم توسيع الشوارع التي تخترق خط الهدنة وتعبيدها من جديد ، وهدم 135 منزلا عربيا في حي المغاربة مقابل حائط المبكى ، ثم افتتح القطاع اليهودي في القدس الغربية وتم دمجه في القدس الشرقية ، وحل مجلس البلدية العربية ، وإلحاقه ببلدية القدس ، ودمج كل القطاعات المدنية العربية في منظومة الحكم الإسرائيلي(
[1]) ، في الوقت الذي انتابت اليهود في العالم عامة ، وفي إسرائيل خاصة حالة من الهوس الديني بسبب " نجاحهم المفاجئ ، والعجائبي على ما يظهر ، في الوصول إلى المدينة القديمة ( القدس الشرقية ) . لقد خاضت إسرائيل الحرب ضد مصر لأسباب ترجع إلى اعتبارات بالغة الأهمية ومتعلقة بالأمن ، لكن إسرائيل ما إن خرجت منتصرة على جميع الجبهات ، حتى بدت النتيجة الأشد مغزى في عقول ومشاعر الإسرائيليين واليهود الآخرين ليست قابعة في سيناء، بل في القدس " ([2]) .
لقد وصل الاستهتار بإسرائيل إلى أنها أقامت عروضا عسكرية في القدس ، عام 1968م ، وصدر قراران من الأمم المتحدة في نفس العام يأسف لهذه التجاوزات ، ولكن إسرائيل لم تأبه لها .
وقد اتخذت اليونيسكو بحكم أنها مؤسسة دولية – تتبع الأمم المتحدة - تعنى بالحفاظ على الثقافة والتراث في العالم قرارها في خريف 1968م بمطالبة إسرائيل بالحفاظ على الممتلكات الثقافية ( الحرم القدسي والآثار الإسلامية) في القدس القديمة ،وأكد ذلك مجلس الأمن ذلك بقراره رقم ( 267 ) في 3/ 7 / 1969م ، على أهمية توقف إسرائيل عن إجراءاتها لتغيير وضع القدس ، ولكن إسرائيل لم ترضخ ، ومن أمثلة تحدياتها السافرة : تحويلها "المدرسة التنكزية " وهي إحدى مدارس القدس الشهيرة التي أنشأها المماليك عام (729هـ ) ، حولتها إلى مركز للشرطة العسكرية ، دون أي نظر لطبيعتها الأثرية والثقافية (
[3]).
وسبق لعصابات اليهود أن قصفوا المسجد الأقصى بالقنابل إبان حرب 1948 م، حيث استشهد بعض المصلين فيه ، وعقب احتلال القدس عام 1967م ، صرح وزير الأديان الإسرائيلي في مؤتمر ديني كبير عقد في القدس أن : " أرض الحرم ملك يهودي بحق الاحتلال وبحق شراء أجدادهم لها منذ ألفي سنة " (
[4]) .
ونرى وقع وزير مالية إسرائيل قرارا باستملاك الحي المعروف باسم الحي اليهودي في القدس القديمة المحتلة ، لقربه من المسجد الأقصى ، والحقيقة أن هذا الحي كما يقول علماء الآثار التوراتيين مكمل لحائط المبكى ، وكذلك يدّعي التوراتيون أن التتمة الشرقية لحائط المبكى اليهود تقع تحت المسجد الأقصى ، وأن القسم الجنوبي منه على مستوى أساساته . وهذا ادعاء شديد الخطورة ، لأنه يعني هدم الأقصى ، لإقامة الهيكل . وقد كان اليهود يدّعون بعد حرب 1967م أن هدم الأقصى سينهي تعلق المسلمين بالقدس ، مما يسهل نسيان القضية وإنهائها تماما في وعي المسلمين(
[5]).
إن مراسم الاحتفالات عند حائط المبكى ، والتخلص العاجل من حي المغاربة ، وضم القدس العربية ، تمثل في عقول الإسرائيليين " إعلانا ثانيا من الاستقلال السياسي والعاطفي ، يضاهي إعلان قيام دولة إسرائيل في مايو 1948م ... ، واعتبر الرأي العام الإسرائيلي ضم القدس عملا لا يُقبَل التفاوض عليه ولا يمكن الرجوع عنه "(
[6]).
وفي 16 أغسطس استولى الحاخام الأكبر في إسرائيل ويدعى " راف فسيم " وبصورة علنية على منبر كلية البنات العربيات القريبة من حائط المبكى ، وجعل منه دارا للمحكمة الربانية ، مدعيا أن هذه الدار كانت مجاورة لهيكل سليمان قديما(
[7]) . وهذا يعني مواصلة نهج محاصرة الحرم القدسي من كل الجهات ، على أمل الانقضاض عليه .
و فور احتلال القدس الشرقية هرع " بن غوريون " في ( 8 حزيران 1967م) إلى حائط المبكى ، وتطلع باشمئزاز إلى إشارة " البراق " المحفورة بالسيراميك وقال : " يجب إنزال هذا الشعار " فأنزل في الحال. ثم سارع زهاء مئتي ألف إسرائيلي إلى المسجد الأقصى عبر طريق البراق الشريف فأدوا صلاة نزول التوراة . كما أدخل اليهود إلى الحرم الإبراهيمي خزانة ضمنها نسخة من التوراة وبعض الكتب الدينية ، وصلى اليهود في ساحة الحرم الإبراهيمي ستة أيام متتالية، وانسحبوا منه بعد معارضات شديدة من المسلمين ، ولكنهم أبقوا على الخزانة بكتبها(
[8]).
كما دعا الحاخام العسكري الأكبر " سلومو غورين " في أغسطس 1967م المؤمنين من اليهود للصلاة في صحن الأقصى المبارك ، وكان سيدعو صراحة خلال هذه الصلاة إلى إعادة تشييد الهيكل مكان الأقصى ، ولكن خشت الحكومة الإسرائيلية من ثورة المسلمين ، فألغت الدعوة(
[9]).
ونجد أن جريدة " نيويورك تايمز " قد نشرت في 11 حزيران عام 1968م ، خريطة مشروع إعادة بناء الأماكن المقدسة ، وقد اختفى الحرم القدسي منها ، وحل محله صورة لهيكل سليمان المزعوم(
[10]).
الحفريات أسفل المسجد الأقصى :
وسارت خطط اليهود في الحفريات ( وقد سبقت الإشارة إلى بعضها ) بهدف إضعاف أساسات المسجد الأقصى ومن ثم تصدعه وتهاويه ، ففي 18 يوليو 1967م ، بدأت الحفريات في آخر حائط المبكى الشمالي ، وأعلن عن العثور على بقايا بناء مجهول ( اتضح فيما بعد أنه من الآثار الإسلامية ) ثم واصلوا الحفر تحت المحكمة الإسلامية الشرعية المجاورة للأقصى شمال حائط المبكى . وفي يوليو 1967م ، استقدم المنقبون بلدوزرا للتنقيب بجانب أساسات الأقصى ، وقاموا بنسف بعض البيوت الملاصقة للأقصى بمتفجرات عالية القوة ، واحتج على ذلك رئيس اللجنة الإسلامية العليا ورئيس الأوقاف الشيخ حلمي المحتسب ، وأرسل رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ، ولكن الأخير لم يعط الأمر اهتماما . جدير بالذكر أن اليهود يزعمون أسطورة عجيبة ، ويؤمنون بها إيمانا مطلقا وهي أن تحت المسجد الأقصى ثلاثة أسوار ، ضمنها غرفة مغطاة بالذهب الصافي ، وأن هذه الغرفة حاوية للوصايا العشر التي خلفها النبي موسى ، وتدعى الغرفة "قدس الأقداس" ولا حق لدخولها إلى للحاخام الأكبر ، فإن دخلها سواه وجب قتله (
[11])، وشاء الله أن يحفظ الأقصى ، وظهر كذب هذه المزاعم عام 1998م ، بالإعلان عن عدم وجود أية آثار تدل على الهيكل وقد أعلن في يوليو 1998م فريق من علماء الآثار العاملين في دائرة الآثار الإسرائيلية بطلان الادعاء بأن : داوود التوراتي ، هو الذي أنشأ القدس ، وقال العالم " روني ريك " : " آسف .. ، لأن السيد داود والسيد سليمان لم يظهرا في هذه القصة " ، وترتب على ذلك رحيل فرق البحث الغربية والإسرائيلية إلى أماكن أخرى . ثم ظهر بناء على ذلك اتجاه جديد يدعو إلى فصل العلاقة بين الآثار التاريخية وما جاء في الكتاب المقدس ، باعتبار أن الكتاب المقدس التوراتي كتاب ديني روحي ، بينما الآثار ملموسات مادية ومن رواد هذا الاتجاه العلماء : "لاب ، دوفو ، ديغر ، فرانكن ، وهم رجال دين عاملون بالآثار ([12]) .
في 29 / 1 / 1976م ، أصدرت مجموعة الصلح الإسرائيلية في القدس قرارا استفزازيا يقضي بحق اليهود في أداء طقوسهم الدينية في ساحة المسجد الأقصى . وفي 30 / 7 / 1980م ، صدر إعلان ضم القدس سياسيا للدولة العبرية ، وإعلانها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل .
في 28 / 8 / 1981م ، قام موظفو الشؤون الدينية الإسرائيلية بحفر نفق شمال حائط المبكى تحت المسجد الأقصى . وفي 25 / 7 / 1982م تم اكتشاف مخطط أعده ياؤول ليرنر ، أحد أتباع الحاخام المتطرف " مائير كاهانا " قائد حركة كاخ لتدمير قبة الصخرة المشرفة .
· في 10 / 3 / 1983م حاولت كتلة غوش أمونيم اليهودية الإرهابية السيطرة على الأقصى بالقنابل والرشاشات .
· في 8 / 10 / 1990 م ، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب مجزرة بحق المصلين في المسجد الأقصى ، وذلك إثر قيامها بإطلاق النار عليهم في ساحات الأقصى بعد أداء الصلاة ، حيث قتلت حوالي عشرين شخصا وجرحت 150 آخرين .
· في 24 / 9 / 1996م ، قامت سلطات الاحتلال بافتتاح النفق الثالث تحت منطقة الحرم القدسي ، عشية عيد الغفران اليهودي ، ويمتد هذا النفق حوالي 400 متر تحت المجمع العربي الإسلامي ومجاورا لأساسات المسجد الأقصى .
· في 1 / 6 / 2000م ، يفاوض اليهود الفلسطينيين لإعطائهم قرية أبوردس بديلا عن القدس (
[13]).

حريق المسجد الأقصى :
في شهر أغسطس عام 1969م ، حدث حريق المسجد الأقصى ، الذي يعد الحلقة الأشد في مسلسل استهداف المسجد الأقصى ، ومن المهم التوقف عنده بشكل تفصيلي ، لمعرفة حجم الكارثة ، ومدى التآمر اليهودي فيها .
فقد قام شاب استرالي الجنسية ، مسيحي الديانة يدعى " دنيس مايكل روهان" على إحراق المسجد الأقصى في وضح النهار، بسكب مواد حارقة في أماكن متعددة في المسجد : القبة ، منبر صلاح الدين ، السلالم ، وامتدت النيران إلى الأعمدة والمفروشات بسرعة، ولولا مسارعة العرب حول الأقصى بإطفاء الحريق، وحضور سيارت إطفاء من الخليل ورام الله ، لقضى الحريق على المسجد بأكمله. خاصة أن سيارات الإطفاء الإسرائيلية وصلت بعد الحريق بساعة، في حين أن المسجد يقع في وسط المدينة. وعندما وصلوا لم يكن لديهم أجهزة إطفاء حديثة لمكافحة الحرائق ولا المواد الكيميائية المطفئة لهذا النوع من الحرائق وما أكثرها في إسرائيل ! فاستعملوا وسائل الإطفاء العادية وهي خراطيم المياه .
لقد انتشى اليهود سعادة بعد سماعهم نبأ الحريق ، وأسرعوا إلى ارتياد المسجد الأقصى شبانا وفتيات بالملابس الخلاعية ، حيث أخذوا يرقصون ويلتقطون الصور . في حين ارتبكت السلطات اليهودية بادئ الأمر ، حيث ادّعوا أن الحريق ناتج عن تفاعل الأسلاك الكهربائية في المسجد ، وهو ما اتضح زيفه لأن الأسلاك معزولة تماما طبقا لتقارير هندسية ، وأن المسجد به احتياطات فنية ضد كل حريق.
وتبين بعد ذلك حجم المهزلة التي صنعتها إسرائيل ، وكيف أنها صاغت فصولا من هذه الدراما المصنوعة من أجل إيهام العرب أنها بعيدة تماما عن هذا الفعل . فقد صرّح مفتي القدس الشيخ " سعد الدين العلمي " أن السلطات الإسرائيلية أخذت منه بالقوة مفتاح أحد أبواب المسجد ، في فترة سابقة ، وثبت بعد ذلك أن الفاعل " دنيس " دخل المسجد بفتح أحد أبوابه ، كما أن تعدد أمكنة الحريق في المسجد ، يدل على أن هناك أشخاصا آخرين كان مشتركين في الحادث ، وذكر شهود عيان أنهم خمسة وليس واحدا .
وقد اشتدت ثورة العرب في القدس وما حولها ، مما دفع السلطات الإسرائيلية أن تعلن أنها قبضت على الفاعل بعد سويعات من الحادث وكأنها كانت على علم مسبق به . وأعلنت الشرطة أن الفاعل مسيحي من استراليا ، وأنه حضر إلى إسرائيل وأقام بها منذ خمسة أشهر في إحدى المستعمرات وهي مستعمرة "كيبوتس أولبان " التي تبعد أربعة وستين كيلو مترا إلى الشمال من تل أبيب ، وأنه مختل عقليا ، ويعاني من هوس ديني بسبب تأثره بأفكار متشددة من بعض جماعات اليهود وتدعى كنيسة الله ، وكان عمره ثمانية وعشرون عاما وقتئذ ، وقد صرّح والده في استراليا أن ابنه لم يكن على علاقة بأي حزب أو جماعة دينية أو سياسية طيلة حياته . وفي المحاكمة تظاهر " دنيس " بالجنون ، وراح يتحدث عن أشياء خيالية ، وروايات دينية ، وزعم أنه أحرق الأقصى تنفيذا لأمر من الله ، وزعم أنه عضو نظامي في كنيسة الله منذ ثلاث سنوات ، ويؤدي لها عشرة بالمئة من دخله المادي ، وهي ضريبة توراتية ، وراح يسرد روايات طويلة من التوراة عن قبائل إسرائيل العشر الموزعة الآن في العالم ، وغيرها من الأساطير . رغم أن هذا الكلام يضاد ما ذكره السفير الاسترالي عن " دنيس " ، وما ذكره والد دنيس عن ابنه . وقامت هيئة المحكمة بتحويل المتهم إلى أطباء نفسيين إسرائيليين ، فأصدروا تقارير تثبت وجود حالة من الشذوذ النفسي والانحراف في شخصية دنيس (ازدواج شخصيته ) ، مما استدعى وضعه في إحدى المصحات للعلاج ، وجاء حكم المحكمة بأن دنيس غير مذنب ، ويوصى بوضعه في مستشفى للأمراض العقلية (
[14]).
خطط تهويد الأقصى وما حوله :
نتيجة المخططات اليهودية المتتابعة ، ووسط تقاعس عربي إسلامي ، نجحت المخططات اليهودية في تهويد القدس ، ومن خلال الأرقام تظهر النتائج جلية واضحة . ففي العام 1917م وكانت خطط التهويد في بدئها ، كانت نسبة الأراضي التي يملكها العرب في القدس ( 90 % ) ، وأربعة بالمئة لليهود فقط ، وكانت نسبة السكان العرب في المدينة ( 75% ) ، في مقابل ( 25 % ) لليهود ، والمجموع الكلي للسكان ( 40.000 ) نسمة .
أما إحصاء عام 1994م ، فتصل نسبة الأراضي التي يملكها العرب في القدس ( 10 % ) ويحاولون الحفاظ على ( 4 % ) أخرى ، بينما يملكون اليهود النسبة المتبقية ( 86% ) ، وأصبحت نسبة السكان العرب في القدس ( 26 % ) في مقابل ( 74% ) لليهود ، ومجموع سكان القدس كلها ( 587.000 ) نسمة(
[15]).
كما توسع المخطط اليهودي في المشروع الأخير الذي صدّق عليه وزير الدفاع " إسحق مردخاي " منذ سنوات لإقامة القدس الكبرى بالمفهوم الإسرائيلي حيث تصل مساحتها إلى ( 600كم2 ) أو ما يعادل ( 10% ) من مساحة الضفة الغربية كلها، والسعي إلى تهويد المدينة المقدسة كلها ، عبر ربط المستوطنات الواقعة في المنطقة الشرقية وخارج حدود بلدية القدس مع المستوطنات داخل حدود بلدية القدس وبالتالي تحويل القرى العربية إلى معازل محاصرة ، مع إقامة أحزمة من الشوارع والأنفاق لربط هذه المستوطنات ، وحفز اليهود على الإقامة في القدس ، لمواجهة الزيادة العربية الكبيرة ( بسبب كثرة المواليد ) ، حيث يحارب العرب اليهود بسلاح الإنجاب ، وتتوقع الدراسات السكانية أن يكون العرب أغلبية في القدس في حدود العام 2050م ، حيث يشير بحث إسرائيلي أن نسبة نمو السكان اليهود في القدس وصلت ( 140% ) في مقابل ( 257% ) لدى العرب ، وذلك منذ العام 1967م (
[16]).
وازداد الأمر خطورة ، مع الإعلان عن خطة " الحوض المقدس " التي تستهدف جمع المواقع الدينية اليهودية المزعومة في القدس ، والتي لا يمكن التنازل عنها ، في إطار جغرافي واحد ، في مساحة حوالي ( 2.5كم2 ) ومن المقرر إنجازها عام 2010م . كما اعتمدت السياسة اليهودية سياسة قدسية المكان، بهدف الاستيلاء على مواقع تاريخية في المدينة ، وبالذات فيما يطلقون عليه الحوض المقدس ، وتحويلها بحكم القانون إلى أماكن مقدسة يهودية ، وفي إطار هذه السياسة حولت بلدية القدس أكثر من ( 326موقعا ) إلى أماكن مقدسة داخل المدينة (
[17]).
أما سياسة تهويد الأقصى فهي تضم منظومة من السياسات ، نعرض أبرزها:
- سياسة ما فوق سطح الأرض ( ساحات المسجد الأقصى ) :
وتشمل إجراءات منع البناء ،ومنع الترميم إلا بأذونات عبر إجراءات تعجيزية،وصدور قرار مما يسمى بمحكمة العدل العليا بأن ساحة الأقصى تحت السيادة الصهيونية، التخطيط لبناء كنيسين يهوديين في الزاويتين الشمالية: الغربية والشرقية .
-سياسة ما تحت ساحة الأقصى :
فهي من أعلى سياسات التهويد وتيرة ومعظمها يجري في الخفاء ، ومنها : حفر شبكات أنفاق متشعبة يصل طول بعضها إلى ( 600م ) وبعضها يخطط له أن يصل إلى مقار المباني الحكومية داخل المدينة . وبناء كنيس من طابقين في الزاوية الجنوبية الغربية ، وتفريغ الأرض لكشف أساسات الأقصى ، واستخدام المذيبات الكيماوية للتأثير على أساسات المسجد ، وبناء مبنى " قافلة الأجيال " الذي يحوي عدة غرف تتحدث عن التاريخ اليهودي . كما يسعون إلى بناء كنيس غرب ساحة الأقصى على مساحة ( 50م ) . كما قاموا بتركيب عشرات كاميرات المراقبة على أسوار المسجد لمراقبة المصلين ، وتركيب أجهزة خاصة حول الساحات تصدر شحنات كهربائية لتفريق تجمعات المصلين داخل ساحات المسجد (
[18]) .
وكذلك هناك مخطط خطير يراد بالأقصى مستقبلا ويدور في المخططات الآتية ، ويتضمن النظريات الآتية التي يمكن تنفيذ إحداها :
- نظرية الأعمدة العشرة :
وتدعو إلى بناء عشرة أعمدة بعدد الوصايا العشر قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى ، بحيث تكون الأعمدة على ساحة المسجد حاليا ، ومن ثم يقام عليها الهيكل .
- نظرية الشكل العمودي :
وتطالب بإقامة الهيكل قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى بشكل عمودي بحيث يصبح الهيكل أعلى من المسجد مع ساحة المسجد من الداخل .
- نظرية الترانسفير العمراني :
وتقوم هذه النظرية على فكرة حفر مقطع التفافي حول مسجد قبة الصخرة بعمق كبير ، ونقل المسجد كما هو خارج القدس وإقامة الهيكل مكانه .
- نظرية الهيكل الكامل : وهي تدعو إلى هدم الأقصى برمته ، وإنشاء الهيكل مكانه (
[19]).
أما سيناريوهات القدس بوصفها عاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية ، فتدور حول أربعة وهي :
السيناريو الأول : ظهر عام 1995م ، ويدعو إلى تدشين عاصمة للفلسطينيين خارج القدس بمساحة ( 10 ) آلاف دونم ، أما الأقصى والبلدة القديمة فيكونان حيا من أحياء القدس اليهودية ، على أن تدار من قبل مجلس منتخب من الديانات الثلاث ، ويرأس المجلس رئيس البلدية اليهودي ، ونائبه يكون رئيس بلدية القدس العربية المفتوحة .
السيناريو الثاني :
برز عام 1994م ، وجوهره أن القدس مدينة واحدة مفتوحة للجميع ، يرأسها يهودي ، تقسم إلى أحياء تدار في شكل حكم ذاتي ، لكنها تتبع البلدية الكبرى ، أما الأماكن المقدسة بما فيها الأقصى فتدار من قبل الأديان المختلفة .
السيناريو الثالث :
تبلور عام 1995م ، ويدعو إلى إنشاء بلديتين عربية ويهودية ، يتبعان بلدية أعلى ، والأحياء العربية تحصل على شبه استقلال ذاتي ، أما الأماكن المقدسة للمسلمين وخاصة الأقصى فتدار بصورة مشتركة : فلسطينية أردنية يهودية .
السيناريو الرابع :
ظهر عام 2000م ، وطرحه " إيهود باراك " في " كامب ديفيد 2 " ، على الرئيس الراحل ياسر عرفات ، ويقضي أن ما تحت الأقصى يكون لليهود ، وما فوقه يكون للعرب ، على أن ينشأ معبدين يهوديين في ساحة الأقصى في الزاويتين الشمالية الغربية والشمالية الشرقية (
[20]).

وبعد ، هذه هي الصورة المستقبلية التي يخطط لها اليهود في فلسطين ، بينما نحن نكتفي بدور المتلقي أو المستقبل ، ضمن سياسة رد الفعل ، لا الفعل .

[1] ) تهويد فلسطين ، تهويد فلسطين ، إعداد وتحرير : د. إبراهيم أو لُغُد ، ترجمة : د. أسعد رزق ، منشورات : رابطة الاجتماعيين بالكويت ، ومركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، فبراير 1972م ، ص 384 .
[2] ) تهويد فلسطين ، مرجع سابق ، ص383 .
[3] ) راجع المعلومات السابقة في : فلسطين والقدس في التاريخ ، فلسطين والقدس في التاريخ ، إدارة المعلومات والأبحاث ، بوكالة الأنباء الكويتية (كونا ) ، 1408هـ ، 1987م ص159 ،ص160 .
[4] ) حريق المسجد الأقصى ، د. ميشال غريب ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1970م ، ص32 ، نقلا عن جريدة الأخبار القاهرية عددي : 22 ، 25 أغسطس 1969م .
[5] ) جريدة الأنوار اللبنانية ، 26 / 8 / 1969م .
[6] ) تهويد القدس ، م س ، ص393 .
[7] ) جريدة الأنوار . 26 / 8 / 1969م .
[8] ) جريدتا : الجمهورية المصرية ، والفاينشيال تايمز البريطانية ، في 24 أغسطس 1969م
[9] ) عن جريدة لفيغارو الفرنسية ، عدد 18 / 8 / 1967م .
[10] ) عن جريدة نيويورك تايمز 11 / 6 / 1968 م .
[11] ) جرائد : الأهرام ( القاهرية ) ، الحياة البيروتية ، في 24 / 8 / 1969 م .
[12] ) انظر القدس والآثار ، م س .
[13] ) راجع المعلومات و التواريخ المذكورة أعله في كتاب : حاضر العالم الإسلامي ، الآلام والآمال ، د. توفيق الواعي ، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت ، ط1 ، 1421هـ ، 2000م ، ص127 .
[14] ) راجع تفصيلا : حريق المسجد الأقصى ، م س ، ص38 – 45 ، ضمن روايات موثقة عن جرائد عربية وأجنبية ، مثل : المحرر ( بيروت ) ، الغارديان ( بريطانيا ) ، الأهرام (القاهرة) ، لوموند ( باريس ) وغيرها .
[15] ) حاضر العالم الإسلامي ، م س ، ص127 .
[16] ) المشروع الصهيوني لتهويد القدس ، د. خليل التفكجي ، مجلة المجتمع ، الكويت ، العدد 1756 ، يونيو 2006م ( ملف القدس وأربعين عاما في قبضة الأفعى ) ، ص15 .
[17] ) الحوض المقدس : أحدث مخططات السيطرة على القدس ، عبد الرحمن فرحانة ، مجلة المجتمع ، الكويت ، العدد 1756 ، يونيو 2006م ( ملف القدس وأربعين عاما في قبضة الأفعى ) ، ص19 .
[18] ) السابق ، ص20 .
[19] ) السابق ، ص20 .
[20] ) السابق ، ص20 .

قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " لسعد الله ونوس : سحر العولمة وسرابها

قراءة في مسرحية " ملحمة السراب " لسعد الله ونوس :
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
سحر العولمة وسرابها :قراءة في البنية والتشكيل
تندرج مسرحية " ملحمة السراب " تحت ما يسمى " الرؤية الاستشرافية للمستقبل" ، فهي تمثل شهادة للتاريخ ، إنها ببساطة ، تقدّم قراءة للعولمة في بعدها التطبيقي المجتمعي . وبالنظر إلى تاريخ نشر هذه المسرحية ( 1996م عن دار الآداب في بيروت ) ، نلاحظ أن ونوس كان متوقعا للتغييرات الاجتماعية التي يمكن أن تصيب المجتمع العربي عامة ، والسوري خاصة ، إذا جاء المتعولمون الليبراليون. وبالتالي ، فإن قراءة هذه المسرحية تتم في سياق عربي أشمل . خاصة أن معطيات المسرحية الجمالية والدلالية ، كانت ضمن إطار قرية ، غير محددة الوجود الجغرافي ، وإنما هي قرية مثل آلاف القرى في عالمنا العربي ، فيها البائسون الفقراء وهم كثرة ، والغني المترف وهم قلة ، وبين هذا وذاك ، يتعايش المجتمع الإنساني بخيره وشره ، فرحه وسعادته .
فكرة المسرحية بسيطة ، وربما تكون نمطية ، " عبود " رجل غني مهاجر عن وطنه ، تعب كثيرا من أجل تكوين ثروة ضخمة في الغرب ، ولا يعرف قريته إلا بزيارات سنوية ، يتزوج فيها إحدى صبايا القرية ، يستمتع بها شهورا ، ثم يطلقها ويغادر ، بعدما جدد نفسيته ، واستمتع بصحبة أهل قرية من المتزلفين ، فيما يحتقره أهل القرية في أعماقهم ، ويصل لعلمه هذا . إلا أن " عبود" سأم من حياته تلك ، وطمح إلى التغيير ، فاقترح خادمه " الشيطاني " تغييرا من طراز آخر ، أن يعود للقرية ، بمال وفير ، فينشئ منتجعات سياحية ومحلات سوبر ماركت ، ويشتري الأرض بعشرة أضعاف ثمنها . ويحدث تأثيرا كبيرا في القرية . تستهل المسرحية بحوار خاص بين الثري عبود المسن ، وخادمه ، حيث يعاني " عبود " من السأم ، فيقترح عليه خادمه أن يذهب إلى قريته ، ويقضي عطلته فيها ، ويتزوج هناك بصبية صغيرة ، يقضي معها أجازته ، ثم يطلقها ، ويعطيها بعض المال . ولكن الثري يرى شيئا آخر ، أن يعود فيستثمر أمواله ، وينشر الخير في قريته ، بمنظور رجل الأعمال . مشاهد المسرحية قصيرة ، حيث يكون تتنقل المشاهد فنرى في الفصول الثلاثة للمسرحية : القرية قبل الثروة ، والقرية أثناء الثروة ، والقرية بعد الثروة ، واكتشاف الأكذوبة الكبرى ، حيث تصبح القرية أشبه بسوبر ماركت كبير ، فيها تجارة واسعة ، ومشروعات سياحية كبيرة وتأخذ مساحة كبيرة على الخريطة الإعلامية الرسمية ، وفي خلال ذلك تتغير النفوس ، وتتبدل القلوب ، ويسود منطق المادة . وتنتهي المسرحية بكارثة ، حيث يهرب الغني عبود إلى الخارج ، بعدما باع مشروعاته بثمن كبير لعدد من المسؤولين الحكوميين ، ويأخذ معه الصبية الجميلة " رباب " ، التي فاز بها من أبيها المغني الحالم ، ولكن حلمه تحطم وتهاوى الرجل وراء بريق المال .
نستطيع أن نقرأ هذه المسرحية وفق تاريخ صدورها ( 1996 ) ، حيث تقدم قراءة المؤلف الضمني للعولمة التي سادت العالم ، وما استتبعها من تمدد الفكر الليبرالي في العالم ضمن ما يسمى بنظرية نهاية التاريخ ، التي حسمت لصالح الرأسمالية ، وقد تم الترويج لهذه النظرية وأبرز منظروها : صموئيل هننتجتون ، وفوكوياما ، وكلاهما أمريكيان . المسرحية تنطلق من زاوية استشراف المستقبل ، فالمؤلف الضمني يرى أن ما تطرحه العولمة ، إنما هو تمدد اقتصادي فحسب ، أما ما يقال عن سيادة حقوق الإنسان ، وقيم الديمقراطية ، فهي مجرد شعارات لزوم الترويج ، وبعبارة أخرى : فإن العولمة ما هي إلا احتلال للشعوب في إطار جديد ، عبر الشراكات الدولية ، واستغلال فتح الحدود وسهولة انتقال رؤوس الأموال من أجل نهب الثروات الوطنية . من المعلوم أن نظرية نهاية التاريخ عُدّت نتيجةً لسقوط المنظومة الاشتراكية ، بانهيار الاتحاد السوفيتي العام 1990م، وقد ظل العالم خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين يردد هذه النظرية ، وتضاعف الاهتمام بها ، عقب أحداث 11 سبتمبر ، ولكن صدق عليها ما يصدق على أي منتج بشري من قصور ونقص ، وسرعان ما ظهر زيفها ، بما تم من حروب في العراق وأفغانستان والصومال ، ومن قبل البوسنة والهرسك ، وظهرت أنها كانت قناعا مثل أقنعة أخرى ، ارتداها الغرب ، في إطار سياساته الرامية لاستغلال الشعوب ، هذا على المستوى السياسي والعسكري ، فنحن بالطبع لا نتعامل مع الغرب بوصفه كلا واحدا ، وإنما العولمة أحد وجوهه الشرسة .
يأتي الإسهاب السابق ، ضمن التأويل الدلالي للمسرحية ، فلا يمكن الفصل بينها وبين المعطيات الدولية . ولكن المؤلف تعامل مع العولمة بصياغة مميزة ، أكسبت المضمون التقليدي ثوبا جديدا ، فلم يعد الأمر مجرد فتنة المال ، على الأفراد والمجتمع ، على نحو ما وجدنا في أدب حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين في مصر فيما يسمى " حقبة الانفتاح الاقتصادي " بأثريائه وقيمه ، حيث رصدَ جوانب من التغييرات الاجتماعية التي قلبت الموازين في بنية الشعب المصري الاجتماعية والثقافية ، وكانت الرؤية المهيمنة وقتئذ – في محاورها العامة – رصد السفه المالي ، وتغير النفوس ، وتخريب الاقتصاد الوطني . وهي نفس المظاهر التي نرصدها في " ملحمة السراب " ، إلا أن الفرق بينها وبين أدب الانفتاح الاقتصادي ، أن الأول كان انفتاحا استهلاكيا تجاريا ، من الداخل ، أما العولمة فتعني قدوم رأس المال الأجنبي إلى بلادنا للاستثمار ، ولكن تميز ملحمة السراب ، جاء من أن المال الأجنبي لم يأت في هيئة مستثمرين أجانب ، بل أحد أبناء الوطن المهاجرين الذين كونوا ثروات بطريقة غير مشروعة ، بعدما ضحوا بمبادئهم ، وحطموا قلوبهم .
العولمة بأذرع وطنية :
حيث قدم " عبود " بماله المتكون في الغرب ، مضحيا بمبادئ كثيرة ، في هذا يحاور خادمه : " ألا تعرف ماذا يوجد مكان القلب في صدري ؟ ... هنا يوجد صخر لا قلب " ( ص7 ، 8 ) . وسبب العودة لا يأتي من انتمائه الوطني ، بقدر ما هو استفادة من الفرص الاستثمارية في الوطن ، واستغلال قوانين التيسير التي قدمتها دول العالم النامي من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية ، يقول عبود : " لست عاطفيا إلى هذا الحد ، ولكن أعتقد أن في البلد تسهيلات يصعب أن نجدها في بلد لا نعرفه " ( ص7 ) . ذلك أنه يواجه ركودا في حركة أمواله ونموها ، يقول : " بدأ الركود يقرض أموالنا ، مثل فئران جائعة ، لم أعد أجد تسلية لا في المكتب ، ولا في البورصة " ( ص6 ) . والتسلية في النمو السريع للمال ، على طريقة الأموال الساخنة Hot Money التي لا تقيم قواعد اقتصادية وطنية ، بقدر ما تسعى للكسب السريع ، عبر التجارة والخدمات والسياحة . وهذا ما حدث عندما عاد عبود إلى قريته ، حيث أقام مشروعات سياحية ، وتجارية ، أغرقت القرية بالبضائع ، وجذبت ما في أيدي الناس من أموال ، ثم هرب عبود للخارج ، يقول الخادم الوفي ( وهو بمثابة المستشار والسكرتير لعبود ) : " نعم ، غدا ( السفر أو الهروب بالمال ) ، وكل شيء جاهز ، بيع المجمّع للمسؤول الكبير ، ووزّعت الأراضي مقاسم لبناء فيلات وشاليهات للاستجمام ، وحوّلت الأموال إلى الخارج ، ولم يبق إلا أن نودع شركاءنا ، ونصعد الطائرة " ( ص152 ) .
فالعولمة مالية ، والمال لا يعرف الانتماء لأرض أو لدين ، يقول الخادم مذكرا سيده الذي تعاطف بعض الشيء مع قومه : " ما الذي يجعلك تتذكر الآن أنهم أهلك وقومك !؟ أما حذرتك من الانزلاق إلى التعاطف ؟ إن مالك هو وطنك ، وإن الأعمال هي أهلك ، ولا مجال في عالمنا الزجاجي لخفقان القلب ، وتهدج العواطف " ( ص151 ) .
ومن هنا اتضحت الصورة ؛ فإن العولمة احتلال جديد ، اقتصادي الطابع ، عميق الهيمنة ، لأنه يسيطر على الثروة الوطنية ، ويستعبد الناس اقتصاديا ، ويجعلهم استهلاكيي الطابع ، يدورون في فراغ حلقة من المتطلبات الحياتية التي لا تنتهي ، بل تزداد يوما بعد يوم .
ووسيلة هذا الاحتلال أبناء الوطن : رجال الأعمال الذين سافروا إلى الغرب ، وتطبعوا بطابعه المادي وعادوا لا يريدون من وطنهم إلا المنفعة ، وعبر أهل السياسة في الوطن نفسه الذين يسهلون الأمور الروتينية ، ويصدرون القوانين المفصلة حسب مقاس المستثمر ، ومن ثم يشاركونه عوائد استثماراته ، ويتآمرون على خروجه .
شخصيات المسرحية :
تكاد لا توجد شخصية محورية في المسرحية أو ما يسمى البطل المحوري ، بقدر ما نجد شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية ، ولا يوجد فرق بين أدوارهم إلا في نسبة الاستحواذ المشهدي على وجودهم ، ولكنهم في المجمل يعكسون حركة واحدة في الفضاء والزمن . وهذه نتيجة طبيعية للرؤية في النص ، فالبطل ليس شخصا ، وإنما المال ، والشخصيات البشرية يعكسون تعاملهم مع المال : قبل الثراء وبعده ، ومن ثم نحن أمام محور هلامي نرى آثاره ولا نكاد نلمسه ، نكتوي بناره ولا نستطيع دفعه . شخصيات القرية متنوعة : المغني الذي لا يهتم إلا الغناء العذب ، إلا أنه سرعان ما يسقط مع إغراء عبود له بالشهرة وطباعة الشرائط ، والغناء في حفلات المسؤولين ، وكذلك زوجته الشبقة للمال " فضة " التي تضاجع – بالمال – أحد رجال القرية إلا أنها تهجر العشيق ، وتنتابها حالة من القرف المادي ، فتلتزم الدين والحجاب ، والعزلة ، وهنا نرى كيف أن اللجوء للدين كان مهربا من الطغيان المادي ، ومع امرأة كانت ترى المال حياتها ، وتحرض ابنتها على الزواج من ثري .
أما الابنة " رباب " مطمح " عبود " الثري ، فلها علاقة رومانسية مع شاب مثقف ، يساري الفكر " بسام " . وهو يمثل موقف المؤلف الضمني من العولمة ، أو بالأدق الرؤية الفكرية المضادة للعولمة ، حيث تقول له " رباب " :" أحببت كلامك عن المساواة بين الرجل والمرأة ، والعمل المشترك ضد الأفكار البالية ، والتقاليد المتخلفة ، أعجبني تقشفك وحديثك عن عش زوجيّ ، مفروش بالبسط اليدوية والطراريح .وموقدة الحطب " ( ص49 ، 50 ) .
هنا كل ملامح الفكر اليساري : ضد البذخ المالي ، ضد التقاليد الاجتماعية الجامدة ، يسعى لفكر تقدمي .
كما نجد شخصية التاجر وزوجته يعيشان حبا مشتركا ، في محل تجارة بسيط وحينما يخضع التاجر لرغبات " عبود " ، ينتهي الحب بينه وبين زوجته ، بسبب الإغراق في المال . أحد نواتج المال على العاطفة ، وهذا ما حدث أيضا بين رباب وبسام ، فقد غيرت الصبية رأيها ، وسعت للزواج من عبود طمعا ، وإنقاذا لأبيها من ديون حاصرته ، بعدما تورط في إصدار شرائط كاسيت .
وأيضا شخصية عمدة القرية ، الذي يعادل رئيس الحكومة ، وسعيه الدائم لإرضاء عبود ، فيبيع أرضه له ، ويكون سندا للثري في أعماله ، وتطويع رجال القرية ، كما نجد شيخ المسجد ، وكيف ينجرف مع الموجة ، ويبرر للناس ما يحدث من تجاوزات بحجة أن ولي الأمر أدرى بمصالح شعبه .
ومن بين الشخصيات تبرز شخصية " مريم " الزرقاء ، التي تمثل رمزا تراثيا يعيدنا إلى شخصية زرقاء اليمامة ، وقد جاء اسمها موحيا بهذا ، وأشار السارد في الهامش إلى طبيعة شخصيتها ، وأنها تبصر المستقبل ، وهي تمثل الوجه الآخر للرؤية الضمنية ، مع بسام الذي ظل ثابتا ولم يتحول ، أما الزرقاء ، فقد تنبأت بأن " عبود " وخادمه سيهربان ومعهما الصبية الجميلة " رباب " ، وهذا ما لم يصدقه أهل القرية . وبذلك تكتمل الرؤية المنبعثة من أعماق التراث .
تعيش مريم الزرقاء ( الضريرة ) في بيتها الريفي البسيط ، ولها ابنان : أمين ، ومروان التبان ، وقد جاء مروان من العاصمة ، ملحيا على أخيه ببيع الأرض التي ورثاها ، لعبود حتى يستعين بثمنها على نفقات معيشته في العاصمة ، بينما يأبى أمين ، ويرى أن الأرض عرض لهما ، ويشتبك الأخوان في جدال ، ينتهي بقتل مروان لأمين ، بمسدسه دون قصد ، فيما تبصر الزرقاء ساعتها .
إنه شخصيات تعبر عن المجتمع بجميع فئاته وطبقاته ومهنه ، وترصد المشاهد أبعاد التغيرات التي أصابت هؤلاء .
بنية الفصول والمشاهد :
توزعت المسرحية على أربعة فصول ، يمثل كل فصل مرحلة زمنية في حياة القرية ؛ الأول يكون تمهيدا للشخصيات والأحداث قبل الثروة ، والثاني : تداعيات وجود عبود في القرية والجدل الذي دار حول هذه الثروة الضخمة التي أصابت القرية ، وأربكت العقول وأضلت القلوب ، والثالث والرباع : القرية تراجع نفسها بعدما اكتوت بنيران المادة : نزاعات بين الناس ، ولهث وراء الثروة ، ووصولهم إلى نقطة اللاعودة للفقر ، وعدم امتلاك الغنى بالمعنى الحقيقي ، فيعيشون في سراب ، بينما يهرب عبود إلى الخارج ، ويتركهم غرقى في الديون .
ونصاب بالدهشة من تعمد السارد عنونة فصوله ؛ ويشير في الهامش للفصل الأول منبها على ذلك بقول :" إن عناوين الفصول هي جزء من نسيج العمل ، ولذا فإني أفترض إبرزاها في العرض ، سواء عبر أداء الممثل ، أو عبر لافتة مكتوبة تقدّم الفصل ، أو تكون جزءا من ديكور مشاهده المتوالية " ( ص5 ) ، فالسارد واع بأهمية الإشارة للعنونة الفصلية ، عند العرض . فهي جزء أساس ومكمل لدلالة المسرحية ، فالفصل الأول : " عودة عبود الغاوي الثالثة من المهجر " (ص5 ) ، والفصل الثاني : " بيع الأراضي يثير في القرية هيجانات وصدامات ... قابيل يقتل أخاه هابيل " ( ص35 ) ، والفصل الثالث : " القرية هشة .. ، وعاصفة " الجديد " متوحشة تحوّلات وتحولات .. ،( ص72 ) ، والفصل الرابع: " مالا عين رأت ولا أذن سمعت " ( ص105 ) .
وعند التأمل في هذه العناوين نلاحظ أنها : ليست عنونة بالمعنى المفهوم ، فليست موجزة الأسلوب ، بل عبارة عن جملة أو عدة جمل . كما أنها جمل : سردية الطابع ، بمعنى أنها تساهم في اكتمال مضمون النص ، ففي عنوان الفصل الأول نرى ما يسمى " الاستشراف " وهو : تقديم حديث مستقبلي للمتلقي ، يكمل الرؤية زمنيا وعلى مستوى الشخصيات ، فيلج المتلقي النص ولديه توقع مسبق بما حدث من قبل ( فعل عودة الغني للقرية مرتين سابقتين ) ، وأن ما هو قادم ( المرة الثالثة ) ، فيتيهأ وجدانيا ومعرفيا لها . ونفس الأمر ينصرف إلى سائر الفصول .
كما أن الديكور الموصوف في العمل يتجاوز الوصف الحسي الذي يمكن تجسيده إلى الواقعية السحرية ( إن جاز التعبير ) ، وهذا يتطلب مصمم سينوجرافيا مرهف الحس ، لينفذ هذا التصور الديكوري . ففي فاتحة الديكورات في المشهد الأول من الفصل الأول :
" ضوء باهر البياض ، يمتص حدود الموجودات وظلالها . كما يحول الوجوه إلى بقع ، تتماوج بين السواد والبريق . من الصعب تمييز الملامح وكذلك تفاصيل المكان . ولعل الشيء الوحيد الذي يستوقف الانتباه هو مزهرية سوداء فيها وردة ضخمة صفراء اللون . ولكن الذبول يجعل الصفرة تنحلّ إلى ألوان بنية ، تتدرج حتى الاهتراء ، تتساقط أوراق الزهرة بإيقاع غريب ، وصوت يشبه رنين جرس زجاجي صغير . عبود الغاوي ، والخادم " ( ص6 )
فهذا ليس وصفا لديكور مجسد ، إنما وصف لحالة : مكانية ، زمانية ، نفسية ، لونية ، صوتية ، متداخلة إلى درجة الامتزاج . وهذا يشي إلى أن هذ النص يجمع الأدبية والتمثيلية ، في رهافة واستشفاف . ولكن هذا غير معمم في ديكورات المسرحية ، وإنما الوصف الديكوري ينقسم إلى قسمين : قسم يعبر عن حالة المكانية السحرية ( وهي تلازم عبود وخادمه تقريبا ) ، وقسمك يعبر عن الواقع الحي المجسم ، وهي تلازم أهل القرية جميعهم . وهذا ، إن دل يدل على أننا أمام حالة من الرؤية المستقبلية التي تقع ما بين الخيال والواقع ، الظل والضوء ، السحر والحقيقة ، بين حالة التآمر الدولي / العولمي / الخفائي / المقنع ،ويعبر عنها : عبود وخادمه ، وبين حالة البساطة / العفوية / الفقر / الغنى / الحقيقة ، في القرية وأهلها .
كما أن المشاهد المسرحية ، عديدة ، متنوعة المكان ، مختلفة المكان ، وهذا يستوجب متطلبات خاصة في التجهيز المسرحي ، فإننا نجد في الفصل الواحد مشاهد وديكورات متعددة بتعدد المشاهد ، كل مشهد له ديكوره الخاص . وعلى سبيل المثال : الفصل الثاني ، يشمل سبعة مشاهد ، بسبعة ديكورات مختلفة ، معبرة عن مواضع مختلفة ، تصور جميعها : حالات أبناء القرية لحظة تلقيهم نبأ الثروة المتدفقة لشراء الأراضي والعقارات ، فنرى : التاجر يوسف وزوجته في محل البقالة البسيط ( المشهد الأول ) ، وفي المشهد الثاني : فضة زوجة المطرب " ياسين " عشيقها في مزرعة بين الأشجار ، وفي المشهد الثالث : بيت ياسين وزوجته وابنته رباب ، وفي المشهد الرابع : مصطبة أمام بيت المختار ( العمدة ) يغطيها حصير وبضعة مساند ، وفي المشهد الخامس : بيت محمد القاسم أديب الناطور ، وفي المشهد السادس : عبود الغاوي وخادمه في حالتهما السحرية المكانية ، وفي المشهد السابع : بيت أمين التبان وأمه مريم الزرقاء .
هذا التنوع المشهد يعبر عن : تنوع الشخصيات ، أمكنة القرية ، الأزمنة ، الطبقات الاجتماعية والفكرية ، فكأننا أمام كاميرا مسرحية متنقلة .
أسلوبية الحوار :
إننا نجد نصا أدبيا عالي المستوى ؛ كُتِب بأسلوب شاعري ، وكتب بوصفه نصا أدبيا أولا ، ومسرحيا ثانيا ، وهذا ما وضح في أمور عدة .
فالحوار ليس حوارا معبرا عن الشخصيات ، مساعدا في بناء الأحداث وتصاعدها ، مكملا لرؤيتنا عن الشخصية ، وإنما حوار مرهف الكلمات ، يقف في المنطقة الوسطى بين الواقعية التي تنقل الأحداث ، والوقائع ، وتدني المتلقي من الحياة المعاشة للشخصيات ، في تميز أسلوبي بديع . وبعبارة أدق : فإن أسلوبية الحوار فصيحة التراكيب ، بليغتها ، تنتقي اللفظ داني القطوف لفهم وتسمو به إلى أجواء المسرح ، حتى لو كان مطعما بمفردات عامية . ففي حوار بين التاجر " يوسف العلوني " ،وزوجته " فاطمة " و" خلف " صديقه :
خلف : ها.. ها .. أتذكرين يا فاطمة آخر مرسح عرفته هذه الضيعة ؟ كان ذلك يوم أصر ابن البدويّ أن يقيم عرسه حسب العادات القديمة ، في تلك الليلة .. ، أوقدنا النار في الميدان ، وعلى دقات الطبل والمزمار ، انعقدت حلقة الدبكة ، تصوري .. أذكر ها ، وكأنه حدث البارحة . كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها .
يوسف :(مقاطعا ) ما هذا ! قلت لك دعنا من الرغي ، وادخل في المفيد .
خلف : بالله عليك يا فاطمة .. ، هل يسمّي كلامي وتلك الذكريات رغيا إلا عديم الإحساس ؟ طبعا أنت لا تذكر شيئا عن تلك الليلة ، لأنك كنت مشغولا بالبيع وعدّ المصاري . أما فاطمة فكانت تقود الرقص كأنها خيال ، ووجهها يقمره لفح النار ، وجسدها يتثنى كالعجين مع إيقاع الطبل والمزمار . ( ص129 )
إننا أمام لوحة حوارية ، تصف مشهد العرس ، مسترجعة إياه ، تطعم الحوار بالصورة الحسية التمثيلية ، حركية الطابع : " كنت مهرة لم يكد ينهد صدرها " ، "فكانت تقود الرقص كأنها خيال " ، " ووجهها يقمره لفح النار " ، " جسدها يتثنى كالعجين " .
لم تبسط الصورة مفهوما في الحوار ، أو معنى غامض ، بل يتعمد السارد أن يسمو بالحوار سموا بلاغيا ، ففاطمة ترقص ، مفهوم هذا ، كأنها " خيال " صورة بها من المبالغة الحركية ما يضفي المزيد من التصور البصري والخيالي على طبيعة رقص فاطمة ، أي أن الصورة تعطي مبالغة معنوية ، أكثر من كونها تجسد المعنى وتبسّطه . ونفس الأمر في : " يقمّره لفح النار " دلالة حمرة الوجه وتوهجه بفعل الرقص .
كما تطعم الأسلوب بألفاظ عامية أو فصيحة تلامس العامية المستخدمة ، مما ساعد على تفصيحها ضمن الحوار مثل : " المصاري ، الدبكة ، رغيا " .