الثلاثاء، 29 يناير 2013

قراءة في رواية " الصمت والصخب " للسوري نهاد سريس

قراءة في رواية " الصمت والصخب " للسوري نهاد سريس


ثورة الجسد وصخب الثورة

د. مصطفى عطية جمعة

Mostafa_ateia123@yahoo.com



إنها الرواية التي بشّرت بالثورة السورية ، وقد كتبت في خضم زمن الاستبداد، إنها رواية " الصمت والصخب " للروائي السوري " نهاد سريس " ( )

ولاشك أننا نتطرق إليها هذه الأيام ، والثورة تجتاح سورية ، وتبشر بمخاض جديد ، وستتم قراءتها وفق رؤى ما بعد الحداثة .

ربما يكون موضوع هذه الرواية مطروقا بعض الشيء في سرديات عربية سابقة ؛ فهو يتناول الصورة النمطية للزعيم المستبد ، إلا أن المعالجة وما بين ثنايا الأحداث تشي برؤية جديدة؛ أساسها : عندما يصبح الوطن رهنا لمشيئة فرد واحد هو الزعيم، وتصبح الجماهير رهينة لرغباته ؛ تمحى الأصوات ، وتنزوي النظريات ، فلا أحزاب ، ولا جماعات سياسية أو معارضة ، ويصبح أفراد الشعب مجرد أجساد ، تحيا بأي شكل ، في حالة من التبلد والاستسلام والإفناء . وهذا ما نصطدم به طيلة أسطر الرواية ، وتلك هي الرؤية التي يلح عليها السارد ، عبر بناء فني، متدفق السرد ، مشوق في الحكي ، بخطاب مباشر من البطل / الكاتب / السارد ، إلى المتلقي / المواطن / الجمهور ، عبر توظيف معطيات الجسد في فنيات الحكي.

جاء الخطاب الروائي بضمير المتكلم في مكاشفة من السارد ، لنتعرف أن البطل كاتب قصصي ، وأديب ، ولديه الكثير من الأنشطة الأدبية ، في الإذاعة والصحف، ولكن اعتاد ألا يشر إلى الزعيم ، رئيس الدولة ، في برنامجه ، وتمسك برأيه بكونه برنامجا أدبيا مفتوحا ، رافضا أن يكون مدجنا ، لو بالإشارة إلى الزعيم ، وحينها يطلبون منه أن يقدم استقالته ، التي تقبل على الفور ، وتكون إشارة لإبعاده من الصحف ودور النشر وكل ما يمت بصلة إليه ، رغم أنه قد حقق شهرة لا بأس بها .

تدور الأحداث الرواية حول يوم خروج الجماهير إلى المسيرة احتفالا بالزعيم، حيث يستيقظ البطل " فتحي شين " على ضجيج في الشوارع ، في يوم قائظ ، فيخرج ويوقفه أحد رجال الحزب ( الحاكم ) ويستفسر منه : لماذا لم يكن في المسيرة ؟ فيخبره أنه يسكن في هذا الشارع ، وهو ليس عضوا في الحزب ولا أية نقابة ، فيأخذ الحزبي بطاقته ، ويطلب منه أن يذهب إلى فرع الأمن في البلدة ليأخذها . يفضل " فتحي " أن يذهب إلى أمه في منزلها ، وهي أرملة جميلة في منتصف العقد السادس من عمرها ، يقدم السارد عنها صورة هزلية فهي تميل للضحك كثيرا ، وتعيش حياتها باستمتاع ، خاصة أنها من أسرة ثرية، فهي لا تعبأ بالسياسة ولا برجالها ، رغم أن زوجها – والد فتحي – كان محاميا ليبراليا معارضا ، وقد أورث هذه الخصال لنجله . ولكن احتفظت الزوجة / الأم بطباعها، ومن ثم أورثتها إلى ابنتها الوحيدة سميرة التي تزوجت أحد رجال الأعمال ، وعاشت معه بنفس طباع أمها . تقضي الأم يومها في التجمل ووضع المساحيق ، حتى إذا أمسى عليها الليل فإنها تزيله وتأوي إلى فراشها ، وتحرص على ارتداء أجمل الثياب ، وأفخمها ، لذا تبدو أصغر من سنها كثيرا . يفاجأ / فتحي أن أمه ستتزوج من أحد رجالات النظام ، وهو السيد هائل ، الذي كان مجرد موظف بسيط وعضو في المجلس البلدي ، ولكن القدر أسعده في أثناء زيارة الزعيم إلى البلدة ، نعثر الزعيم وكاد أن يسقط أرضا ، لولا أن أنقذه "هائل" الذي كان يقف وراءه ببراعة ، لم ينسها الزعيم ، الذي رأى الشريط مرات ومرات ، وأيقن أهمية " هائل " له ، فتم نقله إلى العاصمة ليشغل منصبا أمنيا كبيرا. ومن ثم يتقدم للزواج من أم فتحي ، التي توافق على الفور وتطلب من الابن مباركة الزواج فهي صغيرة السن كما ترى ، وهو سيستفيد من منصب "هائل " . على الجانب الآخر ، نشاهد علاقة " فتحي " بسيدة تدعى " لمى " ، وقد كانت زوجة لأحد رجال الأعمال ، إلا أنه خانها ؛ بزواجه سرا من سكرتيرته التي تمت بقرابة قوية لأحد رجالات السلطة ، فتقرر أن تبتعد عنه ، وتتعرف على "فتحي" ويدخلان في علاقة عشق مشتعلة ، تكون شقتها ميدانا له في غالب الأحوال . حين يصل " فتحي " إلى فرع الأمن يفاجأ بتعقيدات كثيرة ، ويشاهد كيف تقدمت تقنيات المخابرات وصارت تستخدم الحاسوب وشبكة المعلومات وخبراء الدعاية والإعلام، حتى ينتهي به الحال إلى مقابلة السيد هائل ، الذي يعرض عليه الزواج من أمه ، ويكشف عن نواياه في كون هذا الزواج ما هو إلا معبرا لتدجين الكاتب نفسه ، وأن يتم استغلاله كبوق للنظام ، مستغلين مكانته الأدبية والفكرية بين الناس والمثقفين ، ويهدده السيد " هائل " بأنه سيأخذ أمه بشكل شرعي أو غير شرعي وعليه أن يوافق في جميع الأحوال ، وأن يقبل عرضه؛ ومباركة النظام ، والسير في ركابه والزواج من أمه . يعود فتحي إلى عشيقته "لمى " ويخبرها بكل شيء ، منتظرا رأيها ، ولكنها تلزم الصمت . ينام عندها ، ويأتيه حلم ، يشاهد فيه هائل يتزوج أمه ، وينالها أمام عيني ابنها ، ثم يتركها ويغادر ، بينما الأم متشبثة في شبق ، متعلقة في ثيابه .

الجسد أسلوب وبناء وسخرية وثورة :

ليس الجسد – في العمل الفني – مجرد مادة ، تشغل حيزا من الفراغ المكاني، وتقيم علاقات بمن حولها ، وتحتوي الفكر والشعور ، وتعبر عن خلجات النفس وقرارتها من خلال سلوكياتها ، فـ " الجسد الذي يقدم في الروايات ليس جسدا واقعيا ، بل هو تمثيل رمزي للجسد عبر اللغة ... ، فالكاتب يستطيع أن يختار تصورا خاصا للجسد ، كأنه يجعله وسيلة للتعبير عن العلاقة الملتبسة بالوطن، ومن ثم يستند إلى مجموعة من الأفكار الإيديلوجية وهذا ما يحدو الكاتب إلى اختيار لغة بعينها تناسب هذا الاختيار " ( ) .

إن الجسد في الحياة اليومية دال ومدلول في آن ، حيث يعبر به عن ذواتنا: صورة وصوتا وهيئة وفكرا ، بشكل مباشر ، أما في العمل الأدبي فهو علامة وتعبير ووسيلة وتقنية ، أي أنه علامة ومتخيل وجمال ( ). فقراءة الجسد في العمل الأدبي هي قراءة في سياقها الفني ، دون إسقاطات خارجية ، وإنما تتبع دلالة الجسد : فعلا ، حركة ، أعضاء ، حواس .

إن أول ما يستوقف الانتباه في هذه الرواية هو إلحاح السارد على الجسد، وصفا لحركاته وسكناته ، ومن ثم يتحول إلى تقنية وآلية فنية ، تعبر عن الرؤية الكلية للعمل ، فيكون الجسد وسيلة تعبير ، وآلية للرفض ، وأيضا صورة للعجز، أي أنه يجمع متناقضات في آن ، وهذا ما يشار إليه ضمن استراتيجيات التفكيك في القراءة النصية التي يمكن الإفادة منها ، في السعي إلى كشف التناقضات في النص ، بدلالاتها الإيجابية ، من أجل المزيد من تشريح النص ، والكشف عن أبعاده الدلالية .

وبالتالي فإن فكرة الرواية رغم أنها تؤكد فكرة الحضور الجسدي للشعب وللأفراد، فإنها أيضا تنفي الولاء المطلق للزعيم ، وتنفي الانتماء – كما يجب – للوطن . وهذا ما ينبغي الوقوف عنده ، حيث " تتمتع ميتافيريقا الحضور بانتشار وألفة وقوة، ومع ذلك فثم إشكال تواجهه هذه الميتافيزيقا على نحو مميز ، حين تستشهد البراهين الفلسفية بشواهد معينة على الحضور ، فتعتبر هذه الشواهد أرضا تشيد عليها أفكارا لاحقة ، تتكشف هذه الشواهد باستمرار عن كونها تركيبات معقدة بالفعل ، أي أن ما يفترض أنه معطى يتكشف عن كونه نتاجا لشيء سابق عليه، أي يتكشف عن كونه تابعا أو مشتقا بكيفية تحرمه من السلطة المرجعية التي ينطوي عليها الحضور البسيط أو الخالص "( )

إنها رواية تثير الشجن ، وتصنع ابتسامة مرة ، من أوضاع يخيّل إلينا أنها قد بدأت تنزوي ، ولكنها - حقيقة -مترسخة : في نفوس من يتولى الزعامة / السلطة، ويتصور أنه امتلك الشعب ، وفي نفوس الشعب الذي اكتسب ملكة التأقلم مع الزعيم ، أي زعيم ، كي يستطيع التعايش ، وهو ليس تعايشا بقدر ما هو إفناء.





الاثنين، 18 أكتوبر 2010

دراسة جديدة في مجلة الشعر المصرية خريف 2010 - تجليات المكان في شعر العامية ، شعراء الفيوم نموذجا

إبداع المكان وتجلياته في شعر العامية الجديد
شعراء الفيوم نموذجا
د.مصطفى عطية جمعة
Mostafa_ateia123@yahoo.com
يتجلى المكان : إبداعا وأصداء لدى شعراء العامية في الفيوم منذ عقود ، حيث يفرض موقعها الفيوم نفسه في نفوسهم ؛ كونه منخفضا طبيعيا ، أكبر من الواحة وأصغر من الإقليم ، ينأى عن النيل وواديه ، بعيدا إلى الصحراء الغربية ، وإن كانت تربته ترتوي بماء النيل عبر ترعة بحر يوسف . وقد تبارت الأجيال الأولى في شعراء الفيوم في شعر الطبيعة والوصف ، سواء بالعامية أو الفصحى معتمدين على الشكل العمودي المشابه ، وجاء وصفهم المكاني للوطن الصغير والوطن الكبير ، وعندما شجبوا الوطن المكان ، فقد أدانوه بخطاب مباشر، ينتقد الجزئيات والسلبيات ، ولكنه يؤكد على تمسكه بالمكان ، وانتمائه للوطن . يبدو هذا في تجارب الشعراء : ابن حنضل ، ومحمد حواس ، محمد البسيوني ، ومن لحقهم من جيل الشباب مثل عبد الكريم عبد الحميد وغيرهم ، على أن الجيل الجديد ( شعراء حقبة الثمانينيات وما بعدها ) تفاعلوا مع الوطن / القطر /المكان / وعكسوا التطور في شعر العامية الحديث : شعر التفعيلة وقصيدة النثر ، فظهر المكان بشكل مختلف ، لا يقتصر على الفيوم / المدينة / الطبيعة ، وإنما أضحى المكان متسعا باتساع الوطن ، ممتدا إلى خارج الوطن في السفر وبلاد الاغتراب ، انزوت فيه ملامح المدينة الصغيرة ، لتصبح ملامح عامة ، تتشابه فيها مع سائر المدن في مصر وخارجها، وهذا بالطبع ليس علامة سلبية كما يُظَن في الوهلة الأولى ، وإنما هو علامة إيجابية ، تتمثل في إيجاد تراكم إبداعي ، يضاف لما سبق ، ويقرأ المكان في تجلياته في المدينة الصغيرة ، وارتباطها بالقطر الأكبر / الوطن ، والفضاء الأرحب ( مجتمع العروبة والعالم ) . وهذا ما نجده في قراءتنا لشعر العامية في الفيوم عبر استعراضنا لنماذج من نصوص الجيل الجديد من مثل: محمد عبد المعطي ( رحمه الله ) ، محمد حسني إبراهيم ، مصطفى عبد الباقي ، سيد لطفي، وهم وإن تفاوتت أعمارهم ، واختلف التراكم الإبداعي لديهم ، إلا أنهم يتجاورون في إبداع قصيدة العامية الجديدة بتدفق ، يشي بالكثير من المشترك بينهم ، ودراسة تجليات المكان فيها ، ولعل الانطباع الأول في علاقة شاعر العامية بالمكان ، تبدو متقابلة ، بين حميمية الانتماء ، ومعارضة الانزواء ، بين الرغبة في الالتصاق بالأرض ، ومشاعر الاغتراب المكاني ، بين إدانة السفر للبعض ، والتماس العذر لمن اختار الغربة وطنا . وهذا ما سيبرز في المحاور الآتية .
المكان / النيل / الحلم :
حيث نرى الانفعال مع الوطن الكبير ( مصر ) ، وهو تفاعل يمتزج بثنايا الخطاب الشعري ، يقول محمد عبد المعطي معبرا عن روح هذا التوحد بالمكان / الوطن ، متخذا مفردة النيل عنوانا لهذا التوحد ، متوجها إلى المحبوبة الحلم :
والتقيكي بين عيوني بتسجدي
تتعبدي .. تتوضي من صبح الندى وتجسّدي
نيلي ف عروقي وترصدي
نبضي في وريدك تنشدي غنوة صباحي وتفرضي
دمك في دمي توحدي.. تتوحدي ...
وأصب نيلي واكتمل آية خصوبة ف أرض بور
وأثبت الصورة .. أشتعل
أحلم .... أغيب ( )
الخطاب الشعري هنا موجه للأنثى / الوطن ، وقد مزج في طياته أبرز سمات الوطن ومعالمه المكانية ألا وهو النيل النهر والحضارة ، وقد عبر عن الامتزاج بين الذات الشاعرة والوطن من خلال الدم : " دمك في دمي توحدي " ، ويضيف النيل إلى ذاته ، بإضافة ياء المتكلم إليه ( نيلي ) ، والذي كان يوما سببا للحضارة حول واديه ، ليكون النيل / أبرز ملامح الوطن المكان ، سبيلا إلى النماء الجديد ، الذي يعبر عنه بقوله " خصوبة ف أرض بور " ، فالخصوبة علامة على الحضارة، وسط صحراء مصر بشقيها الغربي والشرقي . ولو أعدنا قراءة هذا الطرح في ضوء عنوان القصيدة ، نرى حلما ، يعبر – في دائرة المسكوت عنه – عن أزمة الوطن المعاصر بكل تداعيات هذه الأزمة ، لذا لا غرابة أن تنتهي القصيدة بـ " أحلم ... أغيب " ، في إشارة إلى أن المكان / الوطن الكبير ، بات مؤرقا ، مانعا لأحلام اليقظة .
ويؤكد هذا الملمح في قصيدة " نفس الشوارع " ، معبرة عن تيه الذات وسط شوارع المدينة / الوطن ، التي أورثتهم الجنون والخوف :
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت مني .. سافر الإيقاع
العشق تعويذة
النيل عطش
شعر البنت تكعيبة ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع مسألة هزلية ، واحنا بنخاف
م الحكومة ونستخبى ف الهدوم " ( )
لم تعد الشوارع معبرة عن ألفة أبناء الوطن ، إنها مسألة هزلية ، فالشوارع التي تسمح للمواطن بالسير وتمنعه من التظاهر والتعبير عن حبه ؛ هي شوارع طاردة ، لذا ، بات المواطن ، مختبئا في ملابسه من الحكومة ، خوفا ، وإيثارا للسلامة . وتكون النتيجة الطبيعية لهذا ، أن جف النيل " النيل عطش " ، لتنقلب الدلالة ، ويصبح النيل شاهدا على تهاوي الوطن ومواطنيه ، وبدلا أن يكون النيل هبة لمصر ، صار شاهدا على انزواء مصر ، ومن ثم جف ماؤه ، وبدلا أن يكون شعر المحبوبة مثل تكعيبة العنب خضرةً ، وباتت الضفائر مشابهة للثعابين في التفافها.
وتتشابه التيمة لدى محمد حسني في قصيدته " عرايس النيل " ، وهي تتناص مع عادة الفراعنة القدامى ، بتقديم أجمل بناتهم لمياه النهر أملا في فيضان مبارك، وتوسلا لعدم انقطاع المياه ، لب حياتهم وحضارتهم، يقول:
" .. أول عرايس النيل تشد ف دمعتي آخر عروسة نيل بتتمرغ ف قلبي "
غنايا سر تعويذتك / على الجدران بتقراني
تسمعني رنين النيل
وإذا فكرت أقول مواويل
ألاقي صوتي مش مسموع ___ وأنا فاكر غناكي تماما " ( )
التناص مع " عرايس النيل " ، فيه وجهان متقابلان : استحضار الحضارة الفرعونية بكل إنجازاتها ، وعاداتها ، ورموزها ، وهو استحضار للفخر ، والوجه الثاني : بكاء على حالة معاصرة ، تراجع فيها الوطن ، وهذا ما عبر عنه مفتتح النص فعرايس النيل " تشد ف دمعتي " ، " بتتمرغ ف قلبي " ، وكلتاهما ممتزجة بالذات الشاعرة بإضافة ضمير المتكلم . ومن مظاهر أزمة الوطن / المكان ، الأذن الصماء التي لا تسمع أنين الآخرين ، مثلما لا تسمع شدو الشاعر ، وقد توحدت الذات مع النيل توحدا جماليا ، باستخدام مفردات الصوت : ( غنايا ، رنين، مواويل ، صوتي ) ، ويصبح الصوت مظهرا للحضارة ، وأيضا جسرا للتعبير عن ذات اكتوت بمن لا يسمعها .
كلا من محمد عبد المعطي ، ومحمد حسني ، من جيل واحد ، وفي سن متقاربة، وقد جاء كلا النصين في خضم تجربة واحدة ، في زمن واحد ؛ كما يشير تاريخ نشر الديوانين ، فالفارق الزمني بينهما عامان تقريبا .
ويشتد الصوت بإدانة في تجربة محمد حسني ، في آخر دواوينه ، حيث يتحول الخطاب إلى صراخ ، في قصيدة حملت عنوان " النيل " أيضا ، وكأنه الرابط بالوطن ، والعلامة أيضا على الوطن ، يقول :
أنت اللي عارفينك وطن
وصبرت لما كبرت فيك
علمتنا معنى السكن
وزرعت فينا الخوف عليك ....
فلو سمحت تقول لنا : هاتجيب منين تقاوي تشبه أصلنا ؟
واحنا إن لقينا ف وسطنا
بذرة ومن ريحة بطل نزرعها فين ... ؟ ( )
الخطاب واضح مباشر ، يحمل إدانة لتغييب أبناء الوطن ، لذا جاء بضمير الجمع " تقول لنا ، أصلنا ، نزرعها " ، مقارنا بين حالين : ما تم عرسه في النفوس من حب الوطن ( زرعت فينا الخوف عليك ) ، وبين حال راهنة ، صارت أرض الوطن فيه طاردةً أبناءها ، إن الضدية أساس الرؤية في هذا الخطاب ، فهي تطرح سؤال الانتماء : بين تنظير وغرس يتلقاه الشعب في المدرسة والإعلام والخطب ، ثم يجد الوطن / المكان مختطفا منه .
المكان / الطارد :
عندما يصبح المكان دافعا للانزواء ، وهذا نتيجة حتمية لتهاوي الحلم في المكان / الوطن ، فشعرت الذات بعمق الأزمة ، فاختارت المنفى ، ليصبح المكان الوطن منفى ، وقد يكون ما هو أكثر ، يقول مصطفى عبد الباقي :
لسّاك بتكابر
اضربها في راسك واعقلها
وساعتها
إديني أمارة أنك تسوى
وانك مش أكتر من ضل الحيط
ديتها دمعة
ربيتها في كوم اللحم
وشوية بكش ( )
إن قضية قيمة الفرد في الوطن هي الشغل الشاغل ، وقد جاء تعبير " ضل الحيط " مجسدا هذا المعنى ، وهو من علامات المكان ، فالظل انعكاس لشيء محسوس مادي ، والحائط لا تقام إلا في مكان ، وظل الحائط تعبير عن الوجود وعدمه ، فالظل يجسد وجود شيء ، وفي الحقيقة هو لاشيء ، إنه تعبير عدمي، شديد الدقة ، لأن الحائط يستلزم مكانا ، والمكان المقصود هو الوطن ، الذي يتعامل مع أبنائه على أنهم ظلال ، أشباه رجال ، فيمكن للوطن أن يعترف بالحائط المادي ، ولكنه لن يعترف بمكانة هذا الحائط ولا بمعنى انتصابه ، ويأتي الخطاب الشعري هنا بضمير المخاطب ، معبرا عن مكانة الفرد / الذات / الآخر ، فهو في النهاية : دمعة ، وبعض البكش أو الكلام المزخرف. ويقول:
الأرض بتتكلم صيني
وأنا ..
رحت ميه ورا خرم الباب
وباقلد العتمة( )
هنا تناص مع الأغنية الشهيرة " الأرض بتتكلم عربي " ، التي تغنى بها سيد مكاوي في زمن الحقبة القومية ، ولكن التناص يأتي بالسلب ، لتصبح الأرض ذات دلالتين مكانيتين مترابطتين ، الأولى : إن الأرض – هنا - ليست هي أرض العروبة ( العالم العربي ) وإنما كوكب الأرض المغرق بالبضائع الصينية ، أما الدلالة الثانية فهي أن الوطن مصر بات غارقا في الصيني : بضائع وبشرا وتجارا، بينما انزوى الإنسان المصري ، يراقب تراجع الوطن صناعة وإبداعا ، مؤثرا المنتوج الصيني رخيص الثمن ، على الإنتاج الوطني المدعم من الحكومة ، خلف الباب ينظر من فتحته ، إلى عتمة وظلام ، وهو غارق في عرقه خجلا وقد يكون خوفا ؛ إنها صورة سيريالية ، فالذات تسبح في عرقها ، وتبحلق في الظلام.
أما الشاعر سيد لطفي ، فهو يعزف على وتر أشد شجنا ، يقول:
" ... وبلاش تتكلم ،
عن طعم الغربة في حضن بلادك
اعتبر إنك مفطوم .
..........
- خايف ؟
- طبعا .
- ليه ؟
- أصلها أول مرة أموت .
- وآخر مرة ، غمض عينيك واشرب
بدل ما تستناه روح له ، مادام مش قادر تهرب ، اشرب " ( )

الخطاب موجه إلى الذات الشاعرة وأيضا لكل ذات على أرض الوطن /المكان، حيث يأتي تعبير " حضن بلادك " مؤكدا حقيقة الانتماء للوطن ، وأن الإحساس بالغربة على أرض الوطن هو الأشد مرارة ، ولذا جاءت الصورة واصفة الوطن حضن الأم ، معتبرة أن الفطام يعني ترك هذا الحضن ، وبتعبير آخر ، فإن الفطام يتحور لغويا من ترك ثدي الأم ، إلى ترك حضن الوطن ،وفي كلتا الحالتين، فإن الوطن كالأم ، لا تنكر ابنها مهما قست عليه ، مثلما لا يمكن الابن بنوته ، مهما تناءى عنها . الحوارية التي أعقبت هذا ، كانت منولوجا في أعماق الذات، يشي بمشاعر من الخوف ، ولكن الخوف ليس من رجال الأمن ، وإنما من الموت ، وكأنه يستعد للموت ، وأن الموت حتمي لا فرار منه ، وفي ثنايا النص ، فإن الموت يعني الهروب عن الوطن ، وبدلا من انتظار الموت ، فلتذهب له . وهنا نجد تتطورا في العلاقة مع الوطن ، فقد بات الاغتراب عنه أمر مسلم ، وبات الموت على ثراه أمر مألوف ، وهذا الموت لا يعني الموت الإكلينيكي ، بقدر ما هو اغتيال الذات بنفيها وإقصائها .
إن الاغتراب المكاني لا يهدئ الذات ، بل يشعلها ، وهذا ما يؤكده محمد حسني ، بقوله :
سافر وخطاويك الحزينة هتلاقيك
وهايعرف المشوار بداية خضتك
بتقول سنين ما هتعرفكش
وانت اللي ملبوس بالوطن والأمكنة ( )
المفارقة أن يكون عنوان النص " استغماية " ، وهي لعبة شائعة ، أساسها المطاردة بين فريقين أو فردين ، وهي لعبة مكانية ، فالمطاردة تقتضي أمكنة للاختباء والركض ، وهنا يصبح اللعب بين الذات الشاعرة والوطن ، فعندما فرت الذات إلى الغربة ، طاردها الوطن في أعماقها ، وكأنها مسحورة بعفريت أمكنته، ونلحظ استخدام الشاعر مفردات مكانية ، فالخطوات الحزينة لا تبدو إلا على فضاء مكاني ، والمشوار ما هو إلا قطع لمسافة مكانية . وهذا ما يجعله يخاطب نادي حافظ – شاعر من الفيوم مغترب بالخليج – بنبرة تحذيرية :
رايح لقدرك
بس نيلك عطش
والخوف تكون رايح تسف الرمل
أو ترمي ندرك ليه
الخوف عليك أكتر هناك تستطعمه
ترجع ما تعرفش الخضار
غير العلامة الوسخة على وش الدولار( )
يكرر تعبيره " نيلك عطش " الذي يتناغم مع معطيات جمالية مرت بنا ، ولكن النيل يأتي بخصوصية ذات المخاطَب ، في إشارة إلى صعوبة الحياة في الوطن فبات طاردا أبناءه . وتأتي مفردة : " الخضار " معبرة عن اخضرار الوطن أمام مفردة " الرمل " المعبرة عن أرض المهجر .
* * * *
المسافة بين المكان الحلم ، والمكان الطارد غير موجودة ، فكلاهما معبر عن مكان واحد ، إنه الوطن ، ولكن المسافة بين الذات المبدعة والمكان الحلم تتباعد كلما ابتعد الوطن عنها ، وحاربها .

الهوامش :

) محمد عبد المعطي ، ديوان " بنت ما ولدتهاش ولادة " ، منشورات فرع ثقافة الفيوم ، 2000 ، ص13،14، قصيدة " باحلم .. باغيب "
) السابق ، ص35 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " أو خطاوي العشق موت " ، نشر خاص بالشاعر ، 1998م ، ص3 ، 4 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " المكان جواك محاصر " ، دار اكتب للنشر ، القاهرة ، 2008م . ص 18 .
) مصطفى عبد الباقي " صباح يوم بيتكرر كثير " ، ديوان ، صادر عن سلسلة إبداعات العدد ( 253 ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2008م ، ص35 .
) السابق ، ص69 .
) سيد لطفي ، عادة كل يوم ، منشورات إقليم ثقافة الفيوم ، 2003 ، ص5 .
) المكان جواك محاصر ، ص24 .
) السابق ، ص6 .

الخميس، 16 سبتمبر 2010

مقدمة كتاب اللحمة والسداة للدكتور مصطفى ع

إضاءة أولى

عندما نطلق مصطلح " اللُّحمة والسَّداة " على النص الأدبي ، فإننا لا ننأى عن جوهر النص من حيث كونه نصا لغويا يحمل الكثير من الإشارات والجماليات والإيحاءات والدلالات ، بل إن هذا المصطلح يصب في صميم مفهوم النص، وفق النظرية النقدية الحديثة ؛ فالنص الإبداعي مثل النسيج ، يمكن رؤيته على هيئة النسيج : خطوط عرضية وهي اللحمة ، وأخرى طولية وهي السداة . وإذا كنا لا نتخيل نسيجا دون خطوط متقاطعة متلاحمة ، فإن الأمر يتشابه في النص الأدبي ، بل هو واقع كائن فيه، وما على الناقد إلا أن يقرأ النص في ضوء هذا التصور ، بأن يتخيل الخطوط / العناصر الطولية التي تشكل بنية النص ، والخطوط / العناصر الأفقية العرضية التي تربط هذه الخيوط فيما بينها ، عبر دوائر دلالية ورؤيوية .
ويأتي هذا الكتاب معززا هذا المفهوم بأن يتم التعامل مع النص الأدبي بوصفه نسيجا ؛ فنتأمل بناءه الرأسي ، والدوائر الدلالية الكامنة خلف هذا البناء ، وتتقاطع معه ، ونتمعن في إشاراته الأسلوبية وما تبثه من إيحاءات ودلالات ، وهذا عملية مكتملة ، لا تقف – بالطبع – على حدة عند الرأسي أو الأفقي ، بل تدرس لحمة النص وسداته بشكل شمولي ، في استكناه ما يختزنه النص من أبعاد ثقافية واجتماعية تفهم من شفرات النص ، وتضاء بتحليل الناقد .
إن هذا المفهوم يعيد قراءة النص كوحدة واحدة ، بعيدا عن القراءات التي تمعن في عرض جماليات الشكل ، أو القراءات التي تقف عند طروحاته الفكرية ، وقد يجرف القلم الناقد فيحمل النص ما لا يحتمل من رؤى .
وقد رأى الباحث أن تكون مدرستا الهرمنيوطيقا ( علم التأويل ) ، والسيموطيقا ( علم العلامات ) منهجين أساسيين يعتمدهما في قراءاته ، وهذا لا يعني أنه سيقتصر على هذين المنهجين فقط ، بل هو ساع إلى الاستفادة من مناهج نقدية أخرى مثل البنيوية والأسلوبية والسرد و النقد الثقافي والاجتماعي وغيرها ، وهذا ما يلمسه القارئ في مباحث الكتاب : النظرية والتطبيقية .
على صعيد آخر ، وفي ضوء عنوان الكتاب المتقدم ، فإن اللحمة والسداة لهما مفهوم أكثر خصوصية . فلكل نص علاماته ، وهذه العلامات قد تكون ذات إيحاءات خارجية ( إلى ما هو خارج النص في الحياة ) ، أو داخلية ( إلى ما هو داخل النص عبر ما رسخ في ذهن المتلقي في رحلته النصية ) ، ولا يمكن فهو العلامة النصية إلا بتأويلها وفق المعطيات النصية ، ونقاط الضوء التي يتلمسها الناقد في ثنايا النص .
وبعبارة أخرى أكثر دقة ، فإن العلامات النصية / السيميوطيقيا أشبه بالسداة عبر تتابعها الرأسي في النص ، وتأتي جهود تأويل النص تلحم هذه العلامات مع بعضها البعض ، وفي ضوء نسيج النص الكلي .
ويجدر بالذكر ، أن هذه الدراسات نشرت في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية عديدة( ) خلال عام ماض ، ورغم أنها كتبت في أزمنة متفاوتة ، ولكنها حوت فرضيات منهجية كانت تعتمل في ذهن الباحث – خلال فترة محددة - وسعى إلى اختبارها وتطبيقها في نصوص عدة ، وهي تطبيقات راعت أن تقدم نصوصا إبداعية: شعرية وقصصية ومسرحية جديدة نسبيا ؛ صدرت خلال العقد الأخير أو قبله بقليل ، وهي لأدباء عرب متعددي الأعمار والتجارب والعطاءات ، وتسعى هذه الدراسات النقدية إلى مناقشة هذه الإبداعات مناقشة جادة ، تستكشف جمالياتها ، ورؤاها ، وأيضا بعض مثالبها .
آمل من القارئ الكريم أن يجد بعض المتعة التي استشعرتها في مصاحبتي لهذه النصوص ، وهي مصاحبة نشأت عن علاقة دافئة جمعتني مع النصوص قراءة وتلقيا ومعايشة ، قبل أن تسطر مدادا على الورق .
والله دوما وأبدا من وراء القصد ،،،

قراءة في رواية نتوءات قوس قزح ، بقلم الشاعر / شحاتة إبراهيم


الاحتفاء بالهامش ورد الاعتبار له
قراءة فى رواية نتوءات قوس قزح للدكتور مصطفى عطية

أ. شحاته إبراهيم

السؤال الذي يطرح نفسه بقوه بعد قراءة رواية مصطفى عطية جمعة نتوءات قوس قزح هو هل يكفى النجاح الدرامي للرواية هل يكفى تألق الروائي فى صنع دراما متميزة هل يكفى ذلك وحده لإنجاح العمل الروائي إذا خلت الرواية من الجدل الفكري العميق والحوارات ذات الطابع الفلسفي أو الايدلوجى أو الثقافي أو حتى الجنسي؟ حيث اختار الكاتب لروايته شخصيات بسيطة جدا شخصيات ثقافتها سطحية ( وهذا ليس حكم قيمة بل هو توصيف ) لا يمكنها أن تكون صاحبة مقولات في أي شيء ... فى الفن أو السياسة أو الثقافة أو حتى الدين وطبعا ولا حتى في الجنس وهو الذي يجعل الرواية ينقصها هذا الجانب من الزخم والجدل الفكري العميق الذي يمنح الرواية قدرا من العمق يتجاوز مسالة سرد أحداث إلى إثراء عقول ....ربما يرتاح كثير من المتلقين لما حققته الرواية من نجاح وتميز على مستوى الحكى ونمو الدراما وتصاعدها ووجود حبكات درامية جيده لكن هناك متلقين آخرين ينتظرون ما هو أعمق وانضج ...ينتظرون جدلا عميقا بين الشخوص يمنحهم متعة فكريه اكبر..مع الاعتراف أن للكاتب الحرية الكاملة فى اختيار عالمه الروائي ومستوى ثقافة أبطاله

والرواية كعادة كتابات مصطفى عطية لها أهداف إصلاحية ولها انحيازاتها حيث أسهب فى التعريف بالطقوس الدينية التي يمارسها أبطاله وكأنه يحتفي بها وهذا انحياز,,, كما أسهب فى وصف التشوهات التي لحقت بشخوص روايته نتيجة اللهاث وراء المال وهذا انحياز أيضا لنقيض ذلك ,,, والغريب ان الشيء الوحيد الذي كان يحرك غرائز شخوص العمل هو المال واللهاث وراء الغنى والثروة : فهذا يسافر للخليج للعمل ويتحول إلى شخص جشع جدا وقد كان من قبل كريما وبارا .. وإبراهيم قبل الزواج بامرأة عجوز من اجل الفيزا وشفط ثروتها أيضا على حد وصف الرواية له .. وعم بدرية يطمع فى أرضها وهناك هؤلاء الذين يعطون الدروس الخصوصية بطمع وفجور واستسهال لا حدود له ...ففقط هو المال على الرغم من أننا اعتدنا أن اللهاث وراء السلطة أو الجنس يمكن أن يصنع أعظم الأحداث الدرامية وللحق فقد اشتملت الرواية على محفز آخر لأحلام وسلوك بعض شخوص الرواية وهو الحافز الديني وحب الله والطمع في جنته والخوف من ناره باستثناء ذلك يغيب طموح الناس هنا فى السلطة والجنس بشكل لافت
كما ينجح مصطفى عطية فى تقديم إضاءة قويه جدا عن سلوكيات طبقة معينة من المجتمع المصري إضاءة غير مسبوقة ….. من قبل قدم الروائيون عالم المخدرات عالم الراقصات عالم القتلة والسفاحين لكن نادرا جدا ما نجد عملا يخلص فى بنيته كلها لهذه الفئة النوعية من البشر الذين تمتلئ حياتهم بالصلاة والعبادة والطهارة والذين يدمنون الإخلاص والتضحية حتى آخر عمرهم ...ولعل مثل هذه الرواية لو تم ترجمتها سيندهش من يقرؤها من هذا العالم الذي رصده مصطفى ومن طبيعة العلاقات الموجودة فيه ومن نوعيه القيم التي يرتضيها سيندهش جدا من تلك
( الطقوسية ) التي تمارسها بدرية فهي تحافظ على زيارة القبور بشكل اسبوعى كما أنها تقوم بمناجاة من فى القبر من أحبابها وأهلها وتحدثهم بحميمية ورهافة بالغة وهى من اللفتات الفنية القوية بهذا العمل بل,, وهناك ما هو أكثر طرافة وإبداعا وهو إصرارها على تقديم تقرير أسبوعي للموتى عما فعله أهلهم خلال هذا الأسبوع فلان تزوج فلانة ماتت وكانت مريضة .... إنها محاولة جديدة وعجيبة لربط العالمين بهذا الشكل فى عمل فني

وعلى طريقة الفلاش باك تجلس بدرية بطلة الرواية تتذكر حياتها كلها منذ أن كانت فتاه صغيرة وتركها للتعليم لتربيه إخوتها الصغار بعد موت والديها مرورا بمراحل رشدها وشبابها وزواجها وصولا لعمادة أسرتها أو لنقل عائلتها بعد أن صارت تقريبا اكبر شخص بالعائلة وأنضج ولا عجب أن اختار لها الكاتب اسم بدرية من السبق والوضاءة معا والكاتب يعمل ذلك مع كثير من شخصياته وكأنه حقا لكل شخص نصيب من اسمه

والغريب انه قد اختار بطلة ليست صاحبة مقولات ولا تنظيرات ولا رؤى بالمعنى التقليدي بل صاحبة سلوكيات وقيم لا تتغير بمرور السنين تملك رصيدا من الحب يكفى للتواصل مع الأحياء والأموات معا …كانت حياتها منقسمة بين الأحياء والأموات لكنها استقرت أخيرا على الانحياز للأموات ووجدت لذة فى البقاء بينهم لدرجة أنها نسيت الغداء الشهي الذي تعده الأسرة وبقيت بين المقابر إلى الأصيل

إنه يقدم بطلة هامشية وطبقات هامشية وسلوكيات هامشية شاء لها الكاتب ان تكون محور عالمه الروائي لما تحفل به من أفكار وطقوس غير مألوفة تستحق الرصد والاهتمام وهو ما يعتبر بمثابة احتفاء بالهامشية ورد الاعتبار لها ..فهم منغمسون فى ذواتهم محشورون فى عوالمهم الضيقة الهشة ومشكلاتهم الهامشية فعلى سبيل المثال سافر رمضان ( أحد شخصيات الرواية ) إلى فرنسا وكان من الممكن ان يفتح ذلك مجالا لبعض الصراع بين عالمنا وعالمهم وكان ذلك سيثرى العمل جدا لكن الكاتب تعامل مع هذا التطور باستعجال واقتضاب...لأن تركيزه منصب على ما يحدث هنا لا ما يحدث هناك

ورغم ذلك ينجح الكاتب فى منع أبطاله من الانسلاخ عن النسيج العام أو إخراجهم خارج التاريخ بل يحاول طوال الوقت ربطهم بما يحدث فى المجتمع ككل من تطورات سياسيه تؤثر على القيم والأفكار بدءا من عصر الملكية والحقبة الناصرية وانتهاء بالعصر الحالي مبديا قدرا من الرفض للتجربة الناصرية ومبديا قدرا من الرجم لما جاء بعده من هجرة العقول وتفشى النظرة المادية فى حياه المصريين نتيجة لسفر بعضهم للدول العربية أو الأجنبية سعيا لتحسين حياتهم المادية وإيجاد أعمال تدر ربحا أكثر وما تبع ذلك من تفسخ القيم .........

وتظل هذه الرواية من أنجح كتابات مصطفى عطية القصصية على الإطلاق لوضوح امتلاكه لآلية القص الروائي بشكل حاسم وامتلاكه لقدر كبير من البساطة والتمكن في الكتابة وامتلاكه قدر كبير أيضا ً من المرونة والسلاسة فى التحرك داخل الرواية وتحقيق نموها الدرامي بلا قفزات غير مبررة أو مطبات مثيرة لقلق القارئ أو الناقد فالوعي الفني الجيد لديه منعه دائما من إحداث فجوات درامية أو فجوات في تركيب الشخصيات أو تناقضات فى سياق الحدث
كما يبرز فى العمل وجود اهتمام خاص جدا يمنحه مصطفى عطية للمكان فهو يرصد تفاصيله وتطوره يصف المقابر يتابع تطورها وعلاقتها بالعمران يتحدث عن الشوارع والميادين يذكر كثيرا من أنحاء الفيوم وملامحها ومميزاتها فهناك اهتمام خاص وجدي بالمكان وكأنه توثيق ..كما انه يضع يده على منطقه بكر في الفيوم وهى منطقه ( الصوفي )وما تحمله من خصوصية وزخم وتناقضات يمكن أن تكون محورا للكثير من رواياته القادمة....

وتحفل الرواية بالعديد من الإضاءات المتميزة التي تضيف كثيرا إلى العمل الفني وتمنحه خصوصية في الرؤية فهناك إضاءة إنسانية كبرى في قبول الآخر والتسامح مع تناقضاته والتعالي على اختلافنا الجوهري معه وهو ما حدث فى حب بدريه لـ (سوكا ) الفرنسية زوجه أخيها إبراهيم رغم أنها تبدو عجوزا واكبر من إبراهيم سنا وملابسها عارية إلى حد ما لكن بدريه اكتشفت فيها طيبه وكرما جعلها تحبها وتتمنى ألا يستمع إبراهيم لإغراءات من يدعونه للزواج عليها( احتضنت بدرية سوكا التي تعلمت بعض الكلمات العربية بنطق فكاهى ) ... ولا عجب بعد أن أحبت سوكا تلك العائلة أن تطالب إبراهيم هي نفسها بان يتزوج زوجة ثانية ومساعدته فى إحضارها للعيش معهما بفرنسا ...فهي لقطات إنسانية متميزة ...وتتبدى الإضاءة الثانية فى هذا المستوى من الرهافة فى رؤية بدرية لبطها ودجاجها الذي تربيه ( فراخى مثل عيالي أحبهم قبل ما أربيهم ) ( أنا اترك فراخى تبيت معي تحت السرير واضع الكتاكيت في الدولاب ) ( رأيت الكتاكيت تتجمع فى البرد تلتصق يبعضها تذكرت أنها دون أمهات فبكيت ) فعطف بدريه لا يقتصر فقط على أهلها وذوى رحمها بل يمتد إلى هذه الطيور الصغيرة الضعيفة فتمنحهم حنانا ورعاية دائمة أما الإضاءة الثالثة فقد سبق الإشارة إليها ألا وهو هذه التقارير الأسبوعية العجيبة التي تقولها بدريه للموتى عما جرى للأحياء من أحداث وهو أمر يطول الوقوف عند جمالياته ورحابة رؤاه الإنسانية وخصوصيته الإبداعية ...
ولا يمكننا أن نتناول الرواية بالنقد دون أن نعرج على البطولة المهمة للحوار فهو يبدو بطلا قائما بذاته بجوار أبطال الرواية .. والراوي لم يبخل على أبطاله بالبوح علانية بكل ما يريدون قوله تاركا مساحه قليله جدا للمونولوج اختص بدريه بها كلها تقريبا ..... ولا عجب فى احتفاء الكاتب بالحوار وجعله من البني الأساسية لروايته إذ أن الكاتب نفسه مصطفى عطية جمعة يحب الكلام والحديث والحوار ويحب الناس حديثه ولا تكاد تخلو ندوة من مطارحاته النقدية ...
ثم نأتي إلى نقطة الخلاف الجوهرية والوحيدة مع الروائي مصطفى عطية فهو يتبنى خيار كتابة الحوار بالفصحى أيا كانت الشخصية التي تتحدث به ..وله كما قلنا مطلق الحرية فى اختيار الشكل اللغوي المناسب لروايته ولنا أيضا حرية تقييم هذا الأداء اللغوي والإشارة إلى نجاحه أو إخفاقه ..ويجب أن نعترف فى البداية أنه بمجرد أن اختار الفصحى لغة لشخوص روايته سيكون قد وضع نفسه فى موضع مسائلة تقليدي .. لسبب بسيط هو أن الصراع بين الفصحى والعامية فى الحوار ليس وليد اليوم بل مر عليه فى حدود مائه عام تقريبا ثانيا انه ما من كاتب تبنى هذا التوجه إلا وصار أداة للنقد ما بين متفق معها ومخالف له ولكنه فى كل الأحوال سيثير جدلا نقديا جميلا معه ....فبدرية لم تكمل تعليمها فكيف لها أن تتحدث بالفصحى وحتى كل هذه الشخصيات التي نالت قسطا من التعليم هي لا تمارس الحديث بالفصحى فى حياتها فكيف يمكن علاج هذا التناقض ويظل السؤال هل إنجاح اللغة وتحقيق استقامتها وإبعادها عن أي هفوات أهم لدى المؤلف أم إنجاح الدراما التي لن تستقيم إلا بحوار على مقاس الحالة الدرامية ؟؟؟..فنجاح الدراما يكون بأن تكون لغة الحوار مناسبة تماما للحدث وللمتحدثين وليس أعلى منهم أو أسفل لكن الكاتب ينحاز دائما لقناعته فى كتابه الحوار بالفصحى ولا يقف فى استخدام اللغة عند فصاحتها بل وإلى جزالتها أحيانا ولو على حساب الخصم من درامية المشهد ...فمن الصعب تخيل أشخاص مصريين يقولون لبعض ( يا أبا احمد .. ويا أبا عاصم ) ....وقد يستخدم بعض الألفاظ المهجورة والتي لا يتحملها السياق الدرامي مثل ( دلف / يغذون السير / الثرى / البط رابض ).
ولا يتبقى سوى الاختلاف معه أيضا على اسم الرواية ( نتوءات قوس قزح ) وما فيه من مجاز كبير ...هذا الاسم برأيي لا يناسب أحداث الرواية ومحيطها المكاني وأرى أنه كان بالإمكان اختيار عنوان أكثر بساطة من ذلك ومباشرة ..على انه ينبغي التأكيد على أن كل هذا الاختلاف هو حول جزئية واحدة من هذا العمل ألا وهى رؤية الكاتب لاستخدام اللغة وصياغة عناوينه لكنه بعد ذلك يظل هذا العمل وكما اعترف كثيرون ممن قرأوه من أفضل أعمال مصطفى عطية الإبداعية وانه وضع يده على منطقة بها زخم درامي كبير ستمنحه مجالا لانجاز العديد من الروايات الناجحة واللائقة بموهبته وحماسه وتدفقه الإبداعي كواحد من انجح والمع أبناء جيله فى الكتابة بنوعيها القصصية والنقدية .......


كتاب جديد للدكتور مصطفى عطية بعنوان " اللحمة والسداة : في جماليات وهرمنيوطيقا وسيميوطيقا النص


الأحد، 27 يونيو 2010

نتوءات قوس قزح : رواية جديدة للدكتور مصطفى عطية



روابط نشر خبر الرواية :

جريدة القبس الكويتية 26 / 6 / 2010 http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=616919&date=26062010


موقع ميدل إيست أونلاين http://www.middle-east-online.com/?id=94402

صدرت رواية ( نتوءات قوس قزح) للكاتب والناقد د. مصطفي عطية جمعة عن مؤسسة سندباد للنشر بالقاهرة يونيه2010، في 120 صفحة من القطع المتوسط، ولوحة الغلاف للفنانة العراقية رؤيا رءوف، وقدم الناشر الرواية بكلمة نقدية على الغلاف الأخير قائلا:
تُحلق بنا هذه الرواية في عالم شخصية "بدرية"، التي لا تملك إلا عطاءها نحو من حولها، مثلها مثل الملايين عنوان حياتهن البساطة، وسبيلها الكدّ، وثمرتها العطاء.
إنها رواية الزمن الممتد من طفولتها إلى كهولتها، وأيضًا رواية الزمن القصير الذي يدور في يوم واحد في حياة بدرية، مع حركة قوس قزح، فتقف على نتوءاته، متأملة محطات حياتها لتقول كلمتها الأخيرة.
وهي رواية الفيوم/ المكان في أعماق هذه المرأة التي شهدت تغيرات المدينة عبر نصف قرن، وأيضًا هي رواية الوطن عندما يكتفي أبناؤه بالصمت والترقب.
السيرة الذاتية

* د. مصطفى عطية جمعة
* من مواليد محافظة الفيوم ـ مصر
* عضو اتحاد كتاب مصر، ونادي القصة بالقاهرة
* دكتوراه في البلاغة والنقد الأدبي، كلية دار العلوم.
** نشر البحوث والدراسات والمقالات في:
* أولا المجلات: البيان (الكويت)، المحيط الثقافي (مصر)، الثقافة الجديدة (مصر)، أدب ونقد (مصر)، الرافد (الإمارات)، جذور السعودية، دبي الثقافية، المدى (دمشق)، الثقافة الشعبية (البحرين)
* ثانيا صحف الكويت: القبس/ السياسة/ الرأي العام، عالم اليوم
* يتولى الإشراف والمساهمة في كثير من المنتديات الأدبية والثقافية الإلكترونية
** حاز:
* الجائزة الأولى في الرواية، دار سعاد الصباح، الكويت، 1999م.
* جائزة في النقد الأدبي، جائزة الشارقة، 2000
* الجائزة الثانية في الرواية، نادي القصة، القاهرة، 2001 .
* جائزة لجنة العلوم السياسية، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 1999
* جائزة مركز الخليج للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة/ البحرين، 2002 .
* خمس جوائز في مسابقة الكويت في القصة والبحوث الإسلامية.
* المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس في النقد الأدبي، القاهرة، 2009م .
** صدر للكاتب:
* وجوه للحياة ـ قصص ـ إصدارات نصوص 90 القاهرة، 1997م
* نثيرات الذاكرة ـ دار سعاد الصباح ـ القاهرة/ الكويت، 1999م
* دلالة الزمن في السرد الروائي ـ نقد ـ الشارقة، 2001
* شرنقة الحلم الأصفرـ رواية ـ مركز الحضارة العربية2002م .
* طفح القيح ـ قصص ـ مركز الحضارة العربية القاهرة 2005م .
* أشكال السرد في القرن الرابع الهجري ـ نقد ـ مركز الحضارة العربية القاهرة 2006م
*أمطار رمادية ـ مسرحية ـ مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2007
* هيكل سليمان ـ إسلاميات ـ دار الفاروق للنشر القاهرة 2008م
* ما بعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة. الذات، الوطن، الهوية، منشورات مؤسسة الوراق للنشر، عمان، الأردن ( 2010) .
* نتوءات قوس قزح ـ رواية ـ سندباد للنشر بالقاهرة 2010
** تحت الطبع:
* الظلال والأصداء ـ نقد أدبي ـ منشورات اتحاد الكتاب بمصر.
* الرحمة المهداة ـ إسلاميات ـ مركز الإعلام العربي القاهرة.
* اللحمة والسداة ـ نقد أدبي.




تيار الوعي : رؤية مكانية زمانية ( مقال منشور في جريدة الراي الكويتية )

نشرت جريدة الراي الكويتية مقالا للدكتور مصطفى عطية على هذا الرابط :
نص المقال :
تيار الوعي : رؤية مكانية نفسية زمانية
د. مصطفى عطية جمعة
ربما يكون المفهوم المبسط لمصطلح «تيار الوعي»، هو المفهوم الذي قدمته «فرجينيا وولف» في مؤلفها الشهير «القارئ العادي»، حيث لمسنا تحديدا للمصطلح بشكل مبسط، صاغته مترجمة الكتاب بقولها: «إنه أسلوب التسلسل العفوي»، وحددته أكثر بـ «أنه أسلوب الشيء بالشيء يُذكر» (1) وهو في ظاهره مبسط، ولكنه ينطوي على جوهر هذا الأسلوب الفني، الذي أضحى من سمات القصص بخاصة، والفن بشكل عام في القرن العشرين. فعندما يذكر أحد الأمور، فإن العقل سرعان ما يتداعى إليه بشكل عفوي ما يتصل بهذا الأمر، سواء مما يحبه الفرد أو ما يكرهه. وفي تلك اللحظة، فإن قرار الفرد أو سلوكه سيتحدد بناء على تلك الخلفية المتداعية. وقد يكون الأمر جديدا عليه، وحينئذ تتوزعه أيضا مجموعة من المشاعر التي تتباين بين الرغبة في المعرفة والخوف من الجديد. وهذا لا شيء فيه على صعيد الواقع الإنساني المعتاد منذ فجر الخليقة، فما الجدل إذاً- إزاء ذلك المصطلح؟ مشروعية السؤال تأتت من المعرفة المبسطة السابقة، ولكن على مستوى الفن القصصي خصوصا كان الأمر جد مختلف. فالقص موضوعه منذ الأزل علاقة الإنسان مع أخيه، أو مع الطبيعة. وتلك العلاقة لم تكن مجرد سلوكيات، بل سبقتها دوافع ونوازع متعددة، ترسبت في داخل الإنسان، وحركت توجهاته. إلا أن القص كان يتوقف عند الوصف السلوكي الظاهري والتركيز على البعد الاجتماعي أو الظاهري في المسألة دون التعمق فيه. وبقي الإنسان كنفس ونزوع في عزلة عن السياق القصصي. فالقاص يعرض النتيجة دون ذكر العمق النفسي الذي يكمن وراءها. ولكن مع اقتراب أو انكفاء الإنسان على ذاته في عصر الثورة الصناعية، حيث كان القلق والخوف والإحساس بالتلاشي يسيطر عليه، أمام جبروت المدنية بمصانعها ومداخنها، بدأ يتأمل تلك النفس التي يحتويها جسده. ومن ثم كانت مكتشفات «فرويد» حول العقد الغريزية واللاوعي التي تحرّك الكثير من السلوكيات الظاهرة للفرد. ومحاولات «برجسون» لدراسة وشرح كل ما هو صادر عن الشعور. وثبت الأمر أكثر في دراسات «ليفي برول» وكشفه عن عقلية ما قبل المنطق عند الفطريين أو الإنسان البدائي (2). فكان ذلك فرجة لدراسة النفس وقراءة السلوك بطريقة مختلفة، حاولت أن تتوازى مع العلم المعاصر الذي انصب على الطبيعة يتحداها ويصارعها، ولم يستطع أن يكتشف إلا النذر القليل من هذا الكائن الآدمي نفسه، الذي يريد مجابهة الكون. ومن هنا كانت محاولات جيمس جويس، هذا الأديب القلق في حياته، المتمرد على كل ما يحيطه، والذي أدار السجال حول نزعاته وشبقاته، مثلما فجره بأعماله القصصية، فكانت أعماله نماذج مصغرة لواقعه المعاش، وبعضها كان تصويرا لكل نزعاته المتقلبة. أي أنه راح يقرأ ذاته بطريقة تختلف عن القصاصين السابقين، وهذا هو سر تفرده، منذ روايته «صورة للفنان كشاب» 1916، ثم «الفينيقيون يستيقظون» 1939، وأخيرا «عوليس» التي حوت قمة رؤاه الفنية وتمرده. لقد أراد أن يكتب رواية تصور الحياة المدركة وغير المدركة (3). والأولى تعني السلوك الظاهري الذي يحكمه الزمان والمكان والمادة، أما الثانية فهي الخلفيات والنوازع الواعية وغير الواعية التي تكمن وراء هذا. وبالتالي كان الأمر يُعَد فتحا على مستوى القص، فهناك تجارب وحالات نفسية لا نستطيع التعبير عنها، وحتى اللغة ذاتها لا تملك مصطلحات نقلها، وهناك لحظات بين اليقظة والنوم، والوعي والجنون، كلها تحرّك السلوك (4)وتلك هي الثورة التي فجرها «جويس»، وأجاد بناء قواعدها في قصصه، فكان النحت وإيلاج كلمات جديدة من لغات عدة (5)، وكان التعامل مع الأسطوري والشاذ والتراكمي. وفي الوقت الذي قد نخجل من طرحها وتسييلها على الورق، فكان لابد من مجابهة الأديب لذاته، كما يجابه الفيزيائي الكون، وإن كان البعض، توقف عند أطروحات «جويس» وتفجيره للذات الجنسية بصراحة تصل لحد التنفير، وتتبع كل ما هو غير مألوف في العلاقات الجنسية، فكانت النظرة المضادة له تنبع من الجانب الخلقي، وهي تمتلك الكثير من المشروعية، فلا الجنس هو المحرّك الغريزي الأوحد كما يرى فرويد-، ولا الحياة الإنسانية تتوقف عند الأعضاء الوسطى من الجسد، وليس التحرر الحقيقي، عندما يصبح إشباعها هو نهاية الأرب. فالقيم والمبادئ والمثل لها أيضا لذتها، فكما تجنح النفس للشهوة الحسية، تجنح أيضا للفضيلة اللاحسية. وهذا هو سبب الاختلاف مع «جويس»، بجانب الأسباب الفنية الأخرى، المتمثلة في كسر المألوف من الحكي القصصي واللغوي. وفي هذا يكون للفن والنقد كلمتهما التي لها الكثير من المشروعية أيضا.كما وجدنا أيضا- تقنيات القص التي مزجت المونتاج السينمائي (6)، لا باعتباره من الحيل الإبداعية، بل باعتباره عملية نفسية ذاتية في المقام الأول، فكل منّا يخضع ما يدور من أمور حوله إلى رؤية نفسه، فيرى الأشخاص وفق زمانه ومكانه وبيئته وأيضا أسطورته وفهمه لدينه ولخالقه. وحركات الارتداد «الفلاش باك» تتم في الوعي قبل أن تنقلها الكاميرات السينمائية. فـ«جويس» يتأمل ويستبطن اختلاجات جوانحه «من خلال عمليات عديدة: صريحة ومضمرة، ذهنية ودافعية، مزاجية وإدراكية، انعكاسية وتراكمية، متروية ومتسرعة، بطيئة ومتلاحقة...» (7) كما يوظف علوم وثقافات عصره في إبداعه. وكان البناء الفني الذي قدمه في أعماله، لا يقوم على حبكة واضحة، بقدر ما يقوم على الفهم المتعدد للقص في العمل الأدبي، الذي لا يلين من القراءة الأولى، بل يتأتى من القراءات المتتالية. وتبعا لذلك، أصبح المفهوم الجديد للفن لا يقوم على تقديم الأمل ووصف انتصار الخير ضد الشر وإن كان هذا يحدث، بل سعى الفن إلى تقديم المزيد والدقيق عن الحالة والواقع الإنساني في لحظات الحكي، تقديما عميقا دون تزييف (8)، ويترك الأمر بعد ذلك للقارئ يستنتج ما يريد من خلال تجربته هو كقارئ. فتحول القارئ إلى مبدع إيجابي غير مسترخ. وهذا بالطبع كان يحدث على درجات عديدة في الآداب والدراميات السابقة، ولكنه أضحى مع رؤية المبدع المعاصر، من الأمور التي تصاحب المبدع في لحظات إبداعه، كما هي تصاحب القارئ في تلقيه. فالفهم لذات الإنسان، لم يقف عند الذات المبدعة فقط، ولا عند تشريح شخوص القص، بل تعداه إلى إشراك المتلقي في النشاط الإبداعي- على اعتبار أن الإبداع لا يُفسَّر من ركن واحد، ولامن رؤية مسبقة، بل هو جزء من الفعل الإنساني الذي لا يخضع لدافع نفسي واحد أيضا. وبذلك صارت وظيفة الفن كما يقول أرنست فيشر: « فتح الأبواب المغلقة، لا ولوج الأبواب المفتوحة»، أي البحث عن المستغلق في أعماقنا ومكنوناتنا، وهذا ما دفع ماركيز إلى أن يؤكد عليه بقوله: «يجب دفع القص إلى أقصى حد، ليتجاوز كل واقع» (9) والواقع هنا كما أرى كل رؤية لا تتعمق الظاهر والسلوك، وتكتفي برصده فقط.ولذا نرى أن مصطلح «تيار الوعي» ليس دقيقا؛ فهو يقصر التداعي على ما يعن للعقل في لحظة وقوع الحدث، فلا المتداعي من الوعي يكون بوعي أو بمنطق من صاحبه الفرد، بل إن لحظة التداعي هي حرة في تكوينها، تتخطى مشاعر الحب والكره، وتتآلف مع اللاوعي في تكوين الدافع والسلوك، وهذا ما وجدناه ونجده في الإبداع، حيث تتقاذف العقل والنفس عشرات من الأمور العقلية واللاعقلية، ومن هنا يكون مصطلح «تيار التداعي» أدق وأشمل، فهو يشمل حركة وتماوج النفس بين الوعي واللاوعي، والعقلي والسلوكي. أما عن الزمان، في هذه التقنية، فإننا نلحظ أن هناك زمنين، زمن الحدث الواقع، و«زمن التداعي»، فالأول هو كائن ثابت خاضع للمقياس العقلي البشري، نستطيع تسجيله ورصده والتحكم فيه، أما الثاني «زمن التداعي» فهو يتخطى كل المقاييس المنطقية، ليحلّق في الزمن المطلق، لأن الحدث المتداعي هو البطل، وهو الذي يجمع في تداعيه أشتاتا من الطفولة والشباب والشيخوخة، بل ويجمع الأمنيات المستقبلية لصاحبه، كل هذا يتم في لحظات قد تكون دقائق وفقا للمقياس البشري أو ساعات، ولكنها تمتد بامتداد العمر، بل وتتخطى هذا العمر البشري، حين يتداعى على العقل والنفس ما توارثه من أساطير وعادات وقيم وخرافات، وفي هذا، يكون الزمن ممتدا عبر الرصيد الإنساني بكل ما عرف وترسب في أعماق الفرد. والأمر نفسه يكون مع المكان، فهناك المكان الواقعي، الذي يكون الحدث الظاهر يحدث فيه، وهناك «مكان التداعي»، وهو يشكل الخلفية المادية المكانية للأحداث المتداعية في النفس عند استثارتها بالحدث الخارجي، وقد نراه في النفس واضحا بتفاصيله وموجوداته، أو غير واضح حينما يكون المتداعي من الأساطير أو الكوابيس أو المشاعر المحبة أو الكارهة. إذاً، يكون «تيار التداعي» ليس مطلقا في كل الأحوال، فهناك تيار زماني متداعٍ مقيد، وهناك آخر مطلق، فالمقيد يكون مقيدا باللحظة الزمانية الواقعية التي استدعته، مثلما أن يرى الفرد حدثا لثورة، فيذكّره بكل ما اختزنه من الأحداث الثورية التي عاشها في حقبات من حياته، سواء اتفق أم اختلف إزاءها فهذا هو المقيد. في حين عندما يخلد الفرد نفسه إلى ذاته، يكون هناك الكثير من الأمور المتداعية، دون رابط موضوعي أو زماني محدد، وكما يحدث في النوم والأحلام، تترك النفس على سجيتها فيكون التداعي هنا مطلقا دون قيد.وينصرف الأمر بالتالي على المكان، وهو مصاحب للزمان والحدث، لأنه يمثّل الإطار المادي الذي يحتويهما، وقد يكون مقيدا أو واضح المعالم والقسمات «كما في الحدث الثوري السابق، حين يذكر الفرد ما رآه بعينيه من مظاهرات ومسيرات في أماكن بعينها»، أو يكون المكان غير واضح المعالم، بل هلامي.وتتبقى الأشياء والجمادات في الحدث الواقعي، والحدث المتداعي، حيث نرى أن ثمة ترابطات بين الشيء الواقعي وهو مجرد جزء، قد يستدعي جزءا آخر يشابهه من أعماق النفس، وقد يستدعي أيضا كلاً يشمل هذا الجزء. وفي الوقت نفسه، فإن التحاور العقلاني يكون واردا أيضا لحظة التداعي، أي أن العقل يكون حاضرا بأشكال مختلفة، سواء بعقد المقارنة بين الواقعي والمستدعى، أو بالانتقاء من الأمور المستدعاة، للربط بينها وبين الحدث الواقعي، أو إقامة حوارا بين الرؤية المترسبة في العقل، وبين الحدث الواقعي.* كاتب وناقد مصري الهوامش: (1) فرجينيا وولف. القارئ العادي. ت/ الدكتور عقيلة رمضان. ص 4. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1971.(2) انظر. د. محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث. ص 489. نهضة مصر للطبع والنشر. د. ت. (3) انظر. إيفور إيفانس. مجمل تاريخ الأدب الإنكليزي. ت/ د. زاخر غبريال. ص 177. سلسلة الألف كتاب الثاني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1996.(4) انظر، د. محمد غنيمي هلال. مرجع سابق. ص 488.(5) انظر. د. طه محمود طه. موسوعة جيمس جويس. ص 242، 243. دار القلم. بيروت. 1975.(6) انظر. المرجع السابق. ص 246.(7) د. شاكر عبد الحميد. الأسس النفسية للإبداع الأدبي. ص 17. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1992.(8) انظر. د. محمد غنيمي هلال. مرجع سابق. ص 487.(9) انظر. د. شاكر عبد الحميد. م.