الأحد، 27 يونيو 2010

رؤية نقدية : الكتابة بالإحساس والحواس ( منشور على ميدل إيست أون لاين )

الكتابة بالحواس والإحساس
كتابة الإحساس هي تسجيل الأديب لكل ما يعتمل في نفسه وما يفكر فيه فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره.
على ( ميدل ايست اونلاين ) على هذا الرابط :
د. مصطفى عطية جمعة
عند التأمل في الكثير من الكتابات القصصية والشعرية، والنثرية بشكل عام، نلاحظ أن الكثير منها يندرج تحت ما يسمى "الكتابة البصرية" أو "كتابة الإحساس والمشاعر فقط". وفي هذا إهمال لحواس الإنسان، وهي حواس فاعلة، وغير مقتصرة على عمل جوارح الأديب فحسب، بل تشكل مع باقي عوامل الإدراك والشعور أساسًا قويًا في فهم العالم والأشخاص والأشياء.
( 1 )
الكتابة البصرية هي الكتابة التي تعتمد الوصف لغة في السرد، فيعمد الأديب إلى الوصف الدقيق لكل للمشهد، بكل جزئياته وتفصيلاته، وعند التمعن في هذا الوصف، نجده يقتصر على استخدام حاسة البصر، فعين الأديب هي الراصدة، والأديب يقيم الأمور وفقًا لعيونه هو، أو عيون أبطاله في العمل الإبداعي. فيظل المتلقي واقفًا عند حدود العمل الأدبي: حدود المكان، حدود الزمان، الوصف للشخصيات خارجيًا، وحركاتها على صعيد المكان والزمان، وقد تتداخل حاسة السمع قليلاً في الوصف، ومثال ذلك:
"دخلتُ الغرفة، الكراسي مصفوفة في نظام، باقة من الزهور في المزهرية، ألوانها متنوعة، ثمة أوراق في ركن قصي، نظرت إليها، كانت مجلات وصحفًا قديمة، متداخلة الأوراق، يصلني صوت المذياع بموسيقى صاخبة، تمشيت جيئة وذهابًا، ثم جلست على كرسي، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة، وتركني، أمسكت مجلة قريبة، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة".
في النص السابق نلاحظ: وصف لكل محتويات الغرفة، ونرصد عين البطل تجول كالكاميرا، تنقل لنا كل شيء، وتعلل سبب وجوده، وتحركاته في الغرفة.
إن هذا اللون من الكتابة البصرية، يجبر المتلقي على الوقوف الظاهري أو بالأدق التسطح في تناول العمل، فهو منشغل بالتفاصيل، جاهل بما في نفس البطل. ويكثر هذا اللون في كتابات الأدباء الشبان، حيث يرغبون في توصيل كل شيء مرئي إلى القارئ، فهو يفترضون أنه جاهل بكل شيء، فعليهم القيام بالمهمة، فيغرقون في الجزئيات البصرية والحركية.
كما نجدها بكثرة لدى كتابات الروائية والقصصية التي تعنى بتقديم عالم مكاني جديد – نسبيًا أو كليًا – على القراء، مثل عالم الصحراء أو المناطق النائية في الريف أو أمكنة المهمشين، وهذا اللون يتناسب معها، ولكنه يظل قاصرًا عن تقديم الفهم الكلي للعالم والأشخاص.
كما نراه أكثر في عالم السينما: ففي الأفلام العربية القديمة، تحرص الكاميرات على تصوير حركات الشخوص في المكان، وتعنى برصد المكان بما فيه بشكل دقيق بجانب تتابع الأحداث الدرامية.
كما نراه في الفنون التشكيلية؛ في اللوحات التصويرية، خاصة في حقبة مايكل أنجلو ودافنشي، حيث الاعتناء بتفاصيل الجسد والوجوه، وكل ما في المكان.
ونراه أكثر وضوحًا في الأعمال الفنية الأوروبية التي صوّرت العالم الإسلامي والعربي ابتداء من القرن السابع عشر، حتى أوائل القرن العشرين. وهي لوحات سجلت بشكل دقيق حياة العرب والمسلمين، بريش الفنانين الأوروبيين الذين وفدوا للمغامرة والبحث عن عوالم فريدة عجيبة تبهر الأوروبي.
وكيلا يظن البعض أن الكتابة البصرية (أو التعبير البصري) لا ينقل أحاسيس ولا أفكار، فهذا غير حقيقي، فهو ينقل الإحساس والفكر، من خلال ما يستنبطه المتلقي من الوصف، وهذا استنباط غير كامل، لأنه يجعل المتلقي أسيرًا في فهمه ومشاعره للوصف المقدم إليه من المبدع والفنان.
( 2 )
أما كتابة الإحساس فهو: تسجيل الأديب لكل مشاعره، وما يعتمل في نفسه، وما يفكر فيه، فيغرق المتلقي في أزمته النفسية وأفكاره وخواطره، بينما ينزوي المكان بوصفه، والجسد بحركاته، والزمان بساعته. ومثال لذلك:
" إنني في حيرة من أمري، أعيش قلقًا وسآمة، كلما غدوت إلى مكان أشعر بانقباض نفسي، أكره الناس، الأشياء، العالم، أريد العزلة، أن أعيش في ذكريات الطفولة الجميلة، هربًا من واقع أليم، واقع الفقر، وقلة الشيء، وفقدان الأمل في الحياة".
صحيح أن نقل المشاعر مطلوب، وهدف يسعى الأديب لترسيخه في متلقيه، ولكن هل الإنسان يحيا وينظر بمشاعره فقط، ويحيا وسط مشاعره فقط، أم أنه يحيا في معية الناس والأشياء، وسط مكان وزمان، وهو يتعامل مع هذا كله بأحاسيسه وعقله.
( 3 )
إذن الكتابة بالحواس والإحساس هي: التعبير بكل حواس الإنسان وجوارحه عن اللحظة المعاشة، قدر المستطاع، ووفقًا لما يراه المؤلف الضمني كي تصل رسالته إلى المتلقي كاملة. فيكتب مستعينًا بحواس: البصر في الوصف المكان والأشياء، وحاسة السمع في نقل مختلف الأصوات في المشهد، وحاسة اللمس لإشعارنا بملمس الأشياء: خشنة أو ناعمة، حارة أو باردة ..، وحاسة الشم في نقل رائحة المكان والأشياء مثل: النباتات والروائح المتطايرة في الجو وروائح المصانع والمطاعم والمستشفيات والموتى ..، وحاسة التذوق في إيصال ذائقة الأشياء التي يمكن تذوقها، كل هذا بفؤاد المبدع وعقله، وفي هذا الإطار هناك عدة نقاط مهمة:
الأولى: إن توصيل الأديب لهذه الحواس عبر الكتابة تتم في معية: الإدراك والشعور، فالإدراك: هو التصور العقلي والفهم للمعبر عنه، والشعور: أحاسيس المبدع في تعامله مع الأشياء والمكان والزمان والشخوص والأحداث.
الثانية: وهي مترتبة على النقطة الأولى؛ فإن الأديب قبل أن يمسك القلم، عليه أن يتعايش ويتأمل الموقف المعبر عنه، بكل حواسه، لا يكتفي بالسرد المتتابع المتلاحق الوصفي، بل يكتب بكل حواسه، يجعل المتلقي عائشًا في اللحظة الإبداعية بكل كيانه.
الثالثة: إنها كتابة معقدة، تحتاج إلى قاموس لغوي ثري يمتلكه الأديب، وقدرة خاصة على صنع التعبيرات والتراكيب اللغوية التي تنقل بدقة الحدث بكل متعلقاته النفسية والفكرية والشيئية.
الرابعة: إن هذه الكتابة ذات صلة بتراسل الحواس، وهو مصطلح أسلوبي يقصد أن يجمع التركيب اللغوي ألفاظًا ذات صلة بعدة حواس في آن، منطلقة من مفهوم الإدراك الكلي المتداخل للشيء، فعندما نقول: الوردة جميلة، لا نقصد الشكل (حاسة البصر فقط)، بل نقصد: الرائحة (الشم)، والرقة (اللمس)، والبهجة لرؤيتها (الشعور). ومن الممكن أن نقول: "الوردة تأخذنا إلى فضاء جميل" أو "نعايش الوردة الحلوة" .. إلخ.
الخامسة: إن هذه الكتابة لا تشمل كل أنواع الكتابة في العمل الأدبي، بل يتطلبها الموقف الإبداعي ذاته، فهناك مواقف يقتصر التعبير فيها على حاستين أو ثلاث، وهناك ما هو أكثر أو أقل، هذه يقدرها المؤلف الضمني في إبداعه.
السادسة: تتطلب هذه الكتابة أيضًا ما يسمى بظاهرة "تداخل الضمائر"، وتعني تعبير المبدع بضمائر مختلفة: المتكلم والمخاطب والغائب في الموقف الواحد، بهدف توصيل كل الأصوات للمتلقي، دون غلبة ضمير بعينه: المتكلم مثلا أو الغائب، لأن التعبير بضمير واحد يعني ضمنًا استخدام حاسة أو حاستين على أقصى تقدير.
السابعة: إن هذه الكتابة متحققة في إبداع الكثير من المبدعين، مثل: نجيب محفوظ (في مرحلتي التجريب والنضج)، محمد عفيفي مطر (مجمل أشعاره)، محمد الماغوط (شعره ورواياته خاصة رواية الأرجوحة)، أمل دنقل (في دواوينه الأخيرة) وكثيرين غيرهم ...، كما أنها موجودة في كثير من الكتابات التراثية وتنتظر البحث والتنقيب عنها.
الثامنة: إن الكتابة بالحواس والإحساس، لا تقتصر على الإبداع الأدبي، بل تتخطاه إلى كافة الفنون، فجوهر المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي هي التعبير بالحواس والإحساس باستخدام الريشة أو خامات أخرى. وكذلك في الفن السينمائي: ونلاحظ سينما المخرج محمد خان (مصر) كيف تكون اللقطة السينمائية مشحونة بكل تعبير حركي وشيئي وجسدي، ولعل فيلم "أحلام هند وكاميليا" خير مثال: فالمشاهد دقيقة في لفظها، عميقة في دقائقها، تنقل أحاسيس الأبطال، ورد فعل الشارع؛ وغيره كثيرون في أنحاء العالم.
ومثال لكتابة الحواس والإحساس:
"دخلتُ الغرفة، الكراسي ناعمة الملمس، كسوتها لامعة، وهي مصفوفة في نظام، باقة من الزهور المتألقة في الزهرية، تبعث الكآبة؛ لذبولها وشحوب ألوانها، وانطفاء روائحها، ثمة أوراق في ركن قصي، عانقتها عيناي، كانت مجلات وصحفًا قديمة يفوح العطن من عناوينها التي تروج لشعارات حكومية سئمت النفس من تكرارها، الأوراق متداخلة، يصك أذني صوت المذياع بموسيقى صاخبة ملأت فؤادي بالغثيان، تمشيت جيئة وذهابًا، الجدران تلفظني، ثم جلست على كرسي، كسوته شوك في ظهري، إنني في انتظار صديقي الذي أدخلني الغرفة، وتركني، أمسكت مجلة قريبة، الزمن ثقيل الخطى، صورة الغلاف تمتلئ بجسد امرأة فاتنة، كرهت هيئتها".
( 5 )
إن الأزمة التي صنعت هذا اللون من الكتابة تعود إلى: شعور المبدع الحقيقي أنه متوحد النفس مع عالمه، ورسالته الإبداعية تتمثل في نقل هذا العالم إلى متلقيه ومن هنا فإنه يحترق بالكلمة أو بالريشة أو بالكاميرا من أجل متلقيه. لعل هذا هو ما دفع أحد المبدعين العرب في الأردن ومصر إلى أن يسجل نصوصا إلكترونية؛ تجمع الصورة والكلمة والموسيقى في نص واحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق