الخميس، 16 سبتمبر 2010

قراءة في رواية نتوءات قوس قزح ، بقلم الشاعر / شحاتة إبراهيم


الاحتفاء بالهامش ورد الاعتبار له
قراءة فى رواية نتوءات قوس قزح للدكتور مصطفى عطية

أ. شحاته إبراهيم

السؤال الذي يطرح نفسه بقوه بعد قراءة رواية مصطفى عطية جمعة نتوءات قوس قزح هو هل يكفى النجاح الدرامي للرواية هل يكفى تألق الروائي فى صنع دراما متميزة هل يكفى ذلك وحده لإنجاح العمل الروائي إذا خلت الرواية من الجدل الفكري العميق والحوارات ذات الطابع الفلسفي أو الايدلوجى أو الثقافي أو حتى الجنسي؟ حيث اختار الكاتب لروايته شخصيات بسيطة جدا شخصيات ثقافتها سطحية ( وهذا ليس حكم قيمة بل هو توصيف ) لا يمكنها أن تكون صاحبة مقولات في أي شيء ... فى الفن أو السياسة أو الثقافة أو حتى الدين وطبعا ولا حتى في الجنس وهو الذي يجعل الرواية ينقصها هذا الجانب من الزخم والجدل الفكري العميق الذي يمنح الرواية قدرا من العمق يتجاوز مسالة سرد أحداث إلى إثراء عقول ....ربما يرتاح كثير من المتلقين لما حققته الرواية من نجاح وتميز على مستوى الحكى ونمو الدراما وتصاعدها ووجود حبكات درامية جيده لكن هناك متلقين آخرين ينتظرون ما هو أعمق وانضج ...ينتظرون جدلا عميقا بين الشخوص يمنحهم متعة فكريه اكبر..مع الاعتراف أن للكاتب الحرية الكاملة فى اختيار عالمه الروائي ومستوى ثقافة أبطاله

والرواية كعادة كتابات مصطفى عطية لها أهداف إصلاحية ولها انحيازاتها حيث أسهب فى التعريف بالطقوس الدينية التي يمارسها أبطاله وكأنه يحتفي بها وهذا انحياز,,, كما أسهب فى وصف التشوهات التي لحقت بشخوص روايته نتيجة اللهاث وراء المال وهذا انحياز أيضا لنقيض ذلك ,,, والغريب ان الشيء الوحيد الذي كان يحرك غرائز شخوص العمل هو المال واللهاث وراء الغنى والثروة : فهذا يسافر للخليج للعمل ويتحول إلى شخص جشع جدا وقد كان من قبل كريما وبارا .. وإبراهيم قبل الزواج بامرأة عجوز من اجل الفيزا وشفط ثروتها أيضا على حد وصف الرواية له .. وعم بدرية يطمع فى أرضها وهناك هؤلاء الذين يعطون الدروس الخصوصية بطمع وفجور واستسهال لا حدود له ...ففقط هو المال على الرغم من أننا اعتدنا أن اللهاث وراء السلطة أو الجنس يمكن أن يصنع أعظم الأحداث الدرامية وللحق فقد اشتملت الرواية على محفز آخر لأحلام وسلوك بعض شخوص الرواية وهو الحافز الديني وحب الله والطمع في جنته والخوف من ناره باستثناء ذلك يغيب طموح الناس هنا فى السلطة والجنس بشكل لافت
كما ينجح مصطفى عطية فى تقديم إضاءة قويه جدا عن سلوكيات طبقة معينة من المجتمع المصري إضاءة غير مسبوقة ….. من قبل قدم الروائيون عالم المخدرات عالم الراقصات عالم القتلة والسفاحين لكن نادرا جدا ما نجد عملا يخلص فى بنيته كلها لهذه الفئة النوعية من البشر الذين تمتلئ حياتهم بالصلاة والعبادة والطهارة والذين يدمنون الإخلاص والتضحية حتى آخر عمرهم ...ولعل مثل هذه الرواية لو تم ترجمتها سيندهش من يقرؤها من هذا العالم الذي رصده مصطفى ومن طبيعة العلاقات الموجودة فيه ومن نوعيه القيم التي يرتضيها سيندهش جدا من تلك
( الطقوسية ) التي تمارسها بدرية فهي تحافظ على زيارة القبور بشكل اسبوعى كما أنها تقوم بمناجاة من فى القبر من أحبابها وأهلها وتحدثهم بحميمية ورهافة بالغة وهى من اللفتات الفنية القوية بهذا العمل بل,, وهناك ما هو أكثر طرافة وإبداعا وهو إصرارها على تقديم تقرير أسبوعي للموتى عما فعله أهلهم خلال هذا الأسبوع فلان تزوج فلانة ماتت وكانت مريضة .... إنها محاولة جديدة وعجيبة لربط العالمين بهذا الشكل فى عمل فني

وعلى طريقة الفلاش باك تجلس بدرية بطلة الرواية تتذكر حياتها كلها منذ أن كانت فتاه صغيرة وتركها للتعليم لتربيه إخوتها الصغار بعد موت والديها مرورا بمراحل رشدها وشبابها وزواجها وصولا لعمادة أسرتها أو لنقل عائلتها بعد أن صارت تقريبا اكبر شخص بالعائلة وأنضج ولا عجب أن اختار لها الكاتب اسم بدرية من السبق والوضاءة معا والكاتب يعمل ذلك مع كثير من شخصياته وكأنه حقا لكل شخص نصيب من اسمه

والغريب انه قد اختار بطلة ليست صاحبة مقولات ولا تنظيرات ولا رؤى بالمعنى التقليدي بل صاحبة سلوكيات وقيم لا تتغير بمرور السنين تملك رصيدا من الحب يكفى للتواصل مع الأحياء والأموات معا …كانت حياتها منقسمة بين الأحياء والأموات لكنها استقرت أخيرا على الانحياز للأموات ووجدت لذة فى البقاء بينهم لدرجة أنها نسيت الغداء الشهي الذي تعده الأسرة وبقيت بين المقابر إلى الأصيل

إنه يقدم بطلة هامشية وطبقات هامشية وسلوكيات هامشية شاء لها الكاتب ان تكون محور عالمه الروائي لما تحفل به من أفكار وطقوس غير مألوفة تستحق الرصد والاهتمام وهو ما يعتبر بمثابة احتفاء بالهامشية ورد الاعتبار لها ..فهم منغمسون فى ذواتهم محشورون فى عوالمهم الضيقة الهشة ومشكلاتهم الهامشية فعلى سبيل المثال سافر رمضان ( أحد شخصيات الرواية ) إلى فرنسا وكان من الممكن ان يفتح ذلك مجالا لبعض الصراع بين عالمنا وعالمهم وكان ذلك سيثرى العمل جدا لكن الكاتب تعامل مع هذا التطور باستعجال واقتضاب...لأن تركيزه منصب على ما يحدث هنا لا ما يحدث هناك

ورغم ذلك ينجح الكاتب فى منع أبطاله من الانسلاخ عن النسيج العام أو إخراجهم خارج التاريخ بل يحاول طوال الوقت ربطهم بما يحدث فى المجتمع ككل من تطورات سياسيه تؤثر على القيم والأفكار بدءا من عصر الملكية والحقبة الناصرية وانتهاء بالعصر الحالي مبديا قدرا من الرفض للتجربة الناصرية ومبديا قدرا من الرجم لما جاء بعده من هجرة العقول وتفشى النظرة المادية فى حياه المصريين نتيجة لسفر بعضهم للدول العربية أو الأجنبية سعيا لتحسين حياتهم المادية وإيجاد أعمال تدر ربحا أكثر وما تبع ذلك من تفسخ القيم .........

وتظل هذه الرواية من أنجح كتابات مصطفى عطية القصصية على الإطلاق لوضوح امتلاكه لآلية القص الروائي بشكل حاسم وامتلاكه لقدر كبير من البساطة والتمكن في الكتابة وامتلاكه قدر كبير أيضا ً من المرونة والسلاسة فى التحرك داخل الرواية وتحقيق نموها الدرامي بلا قفزات غير مبررة أو مطبات مثيرة لقلق القارئ أو الناقد فالوعي الفني الجيد لديه منعه دائما من إحداث فجوات درامية أو فجوات في تركيب الشخصيات أو تناقضات فى سياق الحدث
كما يبرز فى العمل وجود اهتمام خاص جدا يمنحه مصطفى عطية للمكان فهو يرصد تفاصيله وتطوره يصف المقابر يتابع تطورها وعلاقتها بالعمران يتحدث عن الشوارع والميادين يذكر كثيرا من أنحاء الفيوم وملامحها ومميزاتها فهناك اهتمام خاص وجدي بالمكان وكأنه توثيق ..كما انه يضع يده على منطقه بكر في الفيوم وهى منطقه ( الصوفي )وما تحمله من خصوصية وزخم وتناقضات يمكن أن تكون محورا للكثير من رواياته القادمة....

وتحفل الرواية بالعديد من الإضاءات المتميزة التي تضيف كثيرا إلى العمل الفني وتمنحه خصوصية في الرؤية فهناك إضاءة إنسانية كبرى في قبول الآخر والتسامح مع تناقضاته والتعالي على اختلافنا الجوهري معه وهو ما حدث فى حب بدريه لـ (سوكا ) الفرنسية زوجه أخيها إبراهيم رغم أنها تبدو عجوزا واكبر من إبراهيم سنا وملابسها عارية إلى حد ما لكن بدريه اكتشفت فيها طيبه وكرما جعلها تحبها وتتمنى ألا يستمع إبراهيم لإغراءات من يدعونه للزواج عليها( احتضنت بدرية سوكا التي تعلمت بعض الكلمات العربية بنطق فكاهى ) ... ولا عجب بعد أن أحبت سوكا تلك العائلة أن تطالب إبراهيم هي نفسها بان يتزوج زوجة ثانية ومساعدته فى إحضارها للعيش معهما بفرنسا ...فهي لقطات إنسانية متميزة ...وتتبدى الإضاءة الثانية فى هذا المستوى من الرهافة فى رؤية بدرية لبطها ودجاجها الذي تربيه ( فراخى مثل عيالي أحبهم قبل ما أربيهم ) ( أنا اترك فراخى تبيت معي تحت السرير واضع الكتاكيت في الدولاب ) ( رأيت الكتاكيت تتجمع فى البرد تلتصق يبعضها تذكرت أنها دون أمهات فبكيت ) فعطف بدريه لا يقتصر فقط على أهلها وذوى رحمها بل يمتد إلى هذه الطيور الصغيرة الضعيفة فتمنحهم حنانا ورعاية دائمة أما الإضاءة الثالثة فقد سبق الإشارة إليها ألا وهو هذه التقارير الأسبوعية العجيبة التي تقولها بدريه للموتى عما جرى للأحياء من أحداث وهو أمر يطول الوقوف عند جمالياته ورحابة رؤاه الإنسانية وخصوصيته الإبداعية ...
ولا يمكننا أن نتناول الرواية بالنقد دون أن نعرج على البطولة المهمة للحوار فهو يبدو بطلا قائما بذاته بجوار أبطال الرواية .. والراوي لم يبخل على أبطاله بالبوح علانية بكل ما يريدون قوله تاركا مساحه قليله جدا للمونولوج اختص بدريه بها كلها تقريبا ..... ولا عجب فى احتفاء الكاتب بالحوار وجعله من البني الأساسية لروايته إذ أن الكاتب نفسه مصطفى عطية جمعة يحب الكلام والحديث والحوار ويحب الناس حديثه ولا تكاد تخلو ندوة من مطارحاته النقدية ...
ثم نأتي إلى نقطة الخلاف الجوهرية والوحيدة مع الروائي مصطفى عطية فهو يتبنى خيار كتابة الحوار بالفصحى أيا كانت الشخصية التي تتحدث به ..وله كما قلنا مطلق الحرية فى اختيار الشكل اللغوي المناسب لروايته ولنا أيضا حرية تقييم هذا الأداء اللغوي والإشارة إلى نجاحه أو إخفاقه ..ويجب أن نعترف فى البداية أنه بمجرد أن اختار الفصحى لغة لشخوص روايته سيكون قد وضع نفسه فى موضع مسائلة تقليدي .. لسبب بسيط هو أن الصراع بين الفصحى والعامية فى الحوار ليس وليد اليوم بل مر عليه فى حدود مائه عام تقريبا ثانيا انه ما من كاتب تبنى هذا التوجه إلا وصار أداة للنقد ما بين متفق معها ومخالف له ولكنه فى كل الأحوال سيثير جدلا نقديا جميلا معه ....فبدرية لم تكمل تعليمها فكيف لها أن تتحدث بالفصحى وحتى كل هذه الشخصيات التي نالت قسطا من التعليم هي لا تمارس الحديث بالفصحى فى حياتها فكيف يمكن علاج هذا التناقض ويظل السؤال هل إنجاح اللغة وتحقيق استقامتها وإبعادها عن أي هفوات أهم لدى المؤلف أم إنجاح الدراما التي لن تستقيم إلا بحوار على مقاس الحالة الدرامية ؟؟؟..فنجاح الدراما يكون بأن تكون لغة الحوار مناسبة تماما للحدث وللمتحدثين وليس أعلى منهم أو أسفل لكن الكاتب ينحاز دائما لقناعته فى كتابه الحوار بالفصحى ولا يقف فى استخدام اللغة عند فصاحتها بل وإلى جزالتها أحيانا ولو على حساب الخصم من درامية المشهد ...فمن الصعب تخيل أشخاص مصريين يقولون لبعض ( يا أبا احمد .. ويا أبا عاصم ) ....وقد يستخدم بعض الألفاظ المهجورة والتي لا يتحملها السياق الدرامي مثل ( دلف / يغذون السير / الثرى / البط رابض ).
ولا يتبقى سوى الاختلاف معه أيضا على اسم الرواية ( نتوءات قوس قزح ) وما فيه من مجاز كبير ...هذا الاسم برأيي لا يناسب أحداث الرواية ومحيطها المكاني وأرى أنه كان بالإمكان اختيار عنوان أكثر بساطة من ذلك ومباشرة ..على انه ينبغي التأكيد على أن كل هذا الاختلاف هو حول جزئية واحدة من هذا العمل ألا وهى رؤية الكاتب لاستخدام اللغة وصياغة عناوينه لكنه بعد ذلك يظل هذا العمل وكما اعترف كثيرون ممن قرأوه من أفضل أعمال مصطفى عطية الإبداعية وانه وضع يده على منطقة بها زخم درامي كبير ستمنحه مجالا لانجاز العديد من الروايات الناجحة واللائقة بموهبته وحماسه وتدفقه الإبداعي كواحد من انجح والمع أبناء جيله فى الكتابة بنوعيها القصصية والنقدية .......


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق