الثلاثاء، 29 يناير 2013

قراءة في رواية " الصمت والصخب " للسوري نهاد سريس

قراءة في رواية " الصمت والصخب " للسوري نهاد سريس


ثورة الجسد وصخب الثورة

د. مصطفى عطية جمعة

Mostafa_ateia123@yahoo.com



إنها الرواية التي بشّرت بالثورة السورية ، وقد كتبت في خضم زمن الاستبداد، إنها رواية " الصمت والصخب " للروائي السوري " نهاد سريس " ( )

ولاشك أننا نتطرق إليها هذه الأيام ، والثورة تجتاح سورية ، وتبشر بمخاض جديد ، وستتم قراءتها وفق رؤى ما بعد الحداثة .

ربما يكون موضوع هذه الرواية مطروقا بعض الشيء في سرديات عربية سابقة ؛ فهو يتناول الصورة النمطية للزعيم المستبد ، إلا أن المعالجة وما بين ثنايا الأحداث تشي برؤية جديدة؛ أساسها : عندما يصبح الوطن رهنا لمشيئة فرد واحد هو الزعيم، وتصبح الجماهير رهينة لرغباته ؛ تمحى الأصوات ، وتنزوي النظريات ، فلا أحزاب ، ولا جماعات سياسية أو معارضة ، ويصبح أفراد الشعب مجرد أجساد ، تحيا بأي شكل ، في حالة من التبلد والاستسلام والإفناء . وهذا ما نصطدم به طيلة أسطر الرواية ، وتلك هي الرؤية التي يلح عليها السارد ، عبر بناء فني، متدفق السرد ، مشوق في الحكي ، بخطاب مباشر من البطل / الكاتب / السارد ، إلى المتلقي / المواطن / الجمهور ، عبر توظيف معطيات الجسد في فنيات الحكي.

جاء الخطاب الروائي بضمير المتكلم في مكاشفة من السارد ، لنتعرف أن البطل كاتب قصصي ، وأديب ، ولديه الكثير من الأنشطة الأدبية ، في الإذاعة والصحف، ولكن اعتاد ألا يشر إلى الزعيم ، رئيس الدولة ، في برنامجه ، وتمسك برأيه بكونه برنامجا أدبيا مفتوحا ، رافضا أن يكون مدجنا ، لو بالإشارة إلى الزعيم ، وحينها يطلبون منه أن يقدم استقالته ، التي تقبل على الفور ، وتكون إشارة لإبعاده من الصحف ودور النشر وكل ما يمت بصلة إليه ، رغم أنه قد حقق شهرة لا بأس بها .

تدور الأحداث الرواية حول يوم خروج الجماهير إلى المسيرة احتفالا بالزعيم، حيث يستيقظ البطل " فتحي شين " على ضجيج في الشوارع ، في يوم قائظ ، فيخرج ويوقفه أحد رجال الحزب ( الحاكم ) ويستفسر منه : لماذا لم يكن في المسيرة ؟ فيخبره أنه يسكن في هذا الشارع ، وهو ليس عضوا في الحزب ولا أية نقابة ، فيأخذ الحزبي بطاقته ، ويطلب منه أن يذهب إلى فرع الأمن في البلدة ليأخذها . يفضل " فتحي " أن يذهب إلى أمه في منزلها ، وهي أرملة جميلة في منتصف العقد السادس من عمرها ، يقدم السارد عنها صورة هزلية فهي تميل للضحك كثيرا ، وتعيش حياتها باستمتاع ، خاصة أنها من أسرة ثرية، فهي لا تعبأ بالسياسة ولا برجالها ، رغم أن زوجها – والد فتحي – كان محاميا ليبراليا معارضا ، وقد أورث هذه الخصال لنجله . ولكن احتفظت الزوجة / الأم بطباعها، ومن ثم أورثتها إلى ابنتها الوحيدة سميرة التي تزوجت أحد رجال الأعمال ، وعاشت معه بنفس طباع أمها . تقضي الأم يومها في التجمل ووضع المساحيق ، حتى إذا أمسى عليها الليل فإنها تزيله وتأوي إلى فراشها ، وتحرص على ارتداء أجمل الثياب ، وأفخمها ، لذا تبدو أصغر من سنها كثيرا . يفاجأ / فتحي أن أمه ستتزوج من أحد رجالات النظام ، وهو السيد هائل ، الذي كان مجرد موظف بسيط وعضو في المجلس البلدي ، ولكن القدر أسعده في أثناء زيارة الزعيم إلى البلدة ، نعثر الزعيم وكاد أن يسقط أرضا ، لولا أن أنقذه "هائل" الذي كان يقف وراءه ببراعة ، لم ينسها الزعيم ، الذي رأى الشريط مرات ومرات ، وأيقن أهمية " هائل " له ، فتم نقله إلى العاصمة ليشغل منصبا أمنيا كبيرا. ومن ثم يتقدم للزواج من أم فتحي ، التي توافق على الفور وتطلب من الابن مباركة الزواج فهي صغيرة السن كما ترى ، وهو سيستفيد من منصب "هائل " . على الجانب الآخر ، نشاهد علاقة " فتحي " بسيدة تدعى " لمى " ، وقد كانت زوجة لأحد رجال الأعمال ، إلا أنه خانها ؛ بزواجه سرا من سكرتيرته التي تمت بقرابة قوية لأحد رجالات السلطة ، فتقرر أن تبتعد عنه ، وتتعرف على "فتحي" ويدخلان في علاقة عشق مشتعلة ، تكون شقتها ميدانا له في غالب الأحوال . حين يصل " فتحي " إلى فرع الأمن يفاجأ بتعقيدات كثيرة ، ويشاهد كيف تقدمت تقنيات المخابرات وصارت تستخدم الحاسوب وشبكة المعلومات وخبراء الدعاية والإعلام، حتى ينتهي به الحال إلى مقابلة السيد هائل ، الذي يعرض عليه الزواج من أمه ، ويكشف عن نواياه في كون هذا الزواج ما هو إلا معبرا لتدجين الكاتب نفسه ، وأن يتم استغلاله كبوق للنظام ، مستغلين مكانته الأدبية والفكرية بين الناس والمثقفين ، ويهدده السيد " هائل " بأنه سيأخذ أمه بشكل شرعي أو غير شرعي وعليه أن يوافق في جميع الأحوال ، وأن يقبل عرضه؛ ومباركة النظام ، والسير في ركابه والزواج من أمه . يعود فتحي إلى عشيقته "لمى " ويخبرها بكل شيء ، منتظرا رأيها ، ولكنها تلزم الصمت . ينام عندها ، ويأتيه حلم ، يشاهد فيه هائل يتزوج أمه ، وينالها أمام عيني ابنها ، ثم يتركها ويغادر ، بينما الأم متشبثة في شبق ، متعلقة في ثيابه .

الجسد أسلوب وبناء وسخرية وثورة :

ليس الجسد – في العمل الفني – مجرد مادة ، تشغل حيزا من الفراغ المكاني، وتقيم علاقات بمن حولها ، وتحتوي الفكر والشعور ، وتعبر عن خلجات النفس وقرارتها من خلال سلوكياتها ، فـ " الجسد الذي يقدم في الروايات ليس جسدا واقعيا ، بل هو تمثيل رمزي للجسد عبر اللغة ... ، فالكاتب يستطيع أن يختار تصورا خاصا للجسد ، كأنه يجعله وسيلة للتعبير عن العلاقة الملتبسة بالوطن، ومن ثم يستند إلى مجموعة من الأفكار الإيديلوجية وهذا ما يحدو الكاتب إلى اختيار لغة بعينها تناسب هذا الاختيار " ( ) .

إن الجسد في الحياة اليومية دال ومدلول في آن ، حيث يعبر به عن ذواتنا: صورة وصوتا وهيئة وفكرا ، بشكل مباشر ، أما في العمل الأدبي فهو علامة وتعبير ووسيلة وتقنية ، أي أنه علامة ومتخيل وجمال ( ). فقراءة الجسد في العمل الأدبي هي قراءة في سياقها الفني ، دون إسقاطات خارجية ، وإنما تتبع دلالة الجسد : فعلا ، حركة ، أعضاء ، حواس .

إن أول ما يستوقف الانتباه في هذه الرواية هو إلحاح السارد على الجسد، وصفا لحركاته وسكناته ، ومن ثم يتحول إلى تقنية وآلية فنية ، تعبر عن الرؤية الكلية للعمل ، فيكون الجسد وسيلة تعبير ، وآلية للرفض ، وأيضا صورة للعجز، أي أنه يجمع متناقضات في آن ، وهذا ما يشار إليه ضمن استراتيجيات التفكيك في القراءة النصية التي يمكن الإفادة منها ، في السعي إلى كشف التناقضات في النص ، بدلالاتها الإيجابية ، من أجل المزيد من تشريح النص ، والكشف عن أبعاده الدلالية .

وبالتالي فإن فكرة الرواية رغم أنها تؤكد فكرة الحضور الجسدي للشعب وللأفراد، فإنها أيضا تنفي الولاء المطلق للزعيم ، وتنفي الانتماء – كما يجب – للوطن . وهذا ما ينبغي الوقوف عنده ، حيث " تتمتع ميتافيريقا الحضور بانتشار وألفة وقوة، ومع ذلك فثم إشكال تواجهه هذه الميتافيزيقا على نحو مميز ، حين تستشهد البراهين الفلسفية بشواهد معينة على الحضور ، فتعتبر هذه الشواهد أرضا تشيد عليها أفكارا لاحقة ، تتكشف هذه الشواهد باستمرار عن كونها تركيبات معقدة بالفعل ، أي أن ما يفترض أنه معطى يتكشف عن كونه نتاجا لشيء سابق عليه، أي يتكشف عن كونه تابعا أو مشتقا بكيفية تحرمه من السلطة المرجعية التي ينطوي عليها الحضور البسيط أو الخالص "( )

إنها رواية تثير الشجن ، وتصنع ابتسامة مرة ، من أوضاع يخيّل إلينا أنها قد بدأت تنزوي ، ولكنها - حقيقة -مترسخة : في نفوس من يتولى الزعامة / السلطة، ويتصور أنه امتلك الشعب ، وفي نفوس الشعب الذي اكتسب ملكة التأقلم مع الزعيم ، أي زعيم ، كي يستطيع التعايش ، وهو ليس تعايشا بقدر ما هو إفناء.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق