الاثنين، 18 أكتوبر 2010

دراسة جديدة في مجلة الشعر المصرية خريف 2010 - تجليات المكان في شعر العامية ، شعراء الفيوم نموذجا

إبداع المكان وتجلياته في شعر العامية الجديد
شعراء الفيوم نموذجا
د.مصطفى عطية جمعة
Mostafa_ateia123@yahoo.com
يتجلى المكان : إبداعا وأصداء لدى شعراء العامية في الفيوم منذ عقود ، حيث يفرض موقعها الفيوم نفسه في نفوسهم ؛ كونه منخفضا طبيعيا ، أكبر من الواحة وأصغر من الإقليم ، ينأى عن النيل وواديه ، بعيدا إلى الصحراء الغربية ، وإن كانت تربته ترتوي بماء النيل عبر ترعة بحر يوسف . وقد تبارت الأجيال الأولى في شعراء الفيوم في شعر الطبيعة والوصف ، سواء بالعامية أو الفصحى معتمدين على الشكل العمودي المشابه ، وجاء وصفهم المكاني للوطن الصغير والوطن الكبير ، وعندما شجبوا الوطن المكان ، فقد أدانوه بخطاب مباشر، ينتقد الجزئيات والسلبيات ، ولكنه يؤكد على تمسكه بالمكان ، وانتمائه للوطن . يبدو هذا في تجارب الشعراء : ابن حنضل ، ومحمد حواس ، محمد البسيوني ، ومن لحقهم من جيل الشباب مثل عبد الكريم عبد الحميد وغيرهم ، على أن الجيل الجديد ( شعراء حقبة الثمانينيات وما بعدها ) تفاعلوا مع الوطن / القطر /المكان / وعكسوا التطور في شعر العامية الحديث : شعر التفعيلة وقصيدة النثر ، فظهر المكان بشكل مختلف ، لا يقتصر على الفيوم / المدينة / الطبيعة ، وإنما أضحى المكان متسعا باتساع الوطن ، ممتدا إلى خارج الوطن في السفر وبلاد الاغتراب ، انزوت فيه ملامح المدينة الصغيرة ، لتصبح ملامح عامة ، تتشابه فيها مع سائر المدن في مصر وخارجها، وهذا بالطبع ليس علامة سلبية كما يُظَن في الوهلة الأولى ، وإنما هو علامة إيجابية ، تتمثل في إيجاد تراكم إبداعي ، يضاف لما سبق ، ويقرأ المكان في تجلياته في المدينة الصغيرة ، وارتباطها بالقطر الأكبر / الوطن ، والفضاء الأرحب ( مجتمع العروبة والعالم ) . وهذا ما نجده في قراءتنا لشعر العامية في الفيوم عبر استعراضنا لنماذج من نصوص الجيل الجديد من مثل: محمد عبد المعطي ( رحمه الله ) ، محمد حسني إبراهيم ، مصطفى عبد الباقي ، سيد لطفي، وهم وإن تفاوتت أعمارهم ، واختلف التراكم الإبداعي لديهم ، إلا أنهم يتجاورون في إبداع قصيدة العامية الجديدة بتدفق ، يشي بالكثير من المشترك بينهم ، ودراسة تجليات المكان فيها ، ولعل الانطباع الأول في علاقة شاعر العامية بالمكان ، تبدو متقابلة ، بين حميمية الانتماء ، ومعارضة الانزواء ، بين الرغبة في الالتصاق بالأرض ، ومشاعر الاغتراب المكاني ، بين إدانة السفر للبعض ، والتماس العذر لمن اختار الغربة وطنا . وهذا ما سيبرز في المحاور الآتية .
المكان / النيل / الحلم :
حيث نرى الانفعال مع الوطن الكبير ( مصر ) ، وهو تفاعل يمتزج بثنايا الخطاب الشعري ، يقول محمد عبد المعطي معبرا عن روح هذا التوحد بالمكان / الوطن ، متخذا مفردة النيل عنوانا لهذا التوحد ، متوجها إلى المحبوبة الحلم :
والتقيكي بين عيوني بتسجدي
تتعبدي .. تتوضي من صبح الندى وتجسّدي
نيلي ف عروقي وترصدي
نبضي في وريدك تنشدي غنوة صباحي وتفرضي
دمك في دمي توحدي.. تتوحدي ...
وأصب نيلي واكتمل آية خصوبة ف أرض بور
وأثبت الصورة .. أشتعل
أحلم .... أغيب ( )
الخطاب الشعري هنا موجه للأنثى / الوطن ، وقد مزج في طياته أبرز سمات الوطن ومعالمه المكانية ألا وهو النيل النهر والحضارة ، وقد عبر عن الامتزاج بين الذات الشاعرة والوطن من خلال الدم : " دمك في دمي توحدي " ، ويضيف النيل إلى ذاته ، بإضافة ياء المتكلم إليه ( نيلي ) ، والذي كان يوما سببا للحضارة حول واديه ، ليكون النيل / أبرز ملامح الوطن المكان ، سبيلا إلى النماء الجديد ، الذي يعبر عنه بقوله " خصوبة ف أرض بور " ، فالخصوبة علامة على الحضارة، وسط صحراء مصر بشقيها الغربي والشرقي . ولو أعدنا قراءة هذا الطرح في ضوء عنوان القصيدة ، نرى حلما ، يعبر – في دائرة المسكوت عنه – عن أزمة الوطن المعاصر بكل تداعيات هذه الأزمة ، لذا لا غرابة أن تنتهي القصيدة بـ " أحلم ... أغيب " ، في إشارة إلى أن المكان / الوطن الكبير ، بات مؤرقا ، مانعا لأحلام اليقظة .
ويؤكد هذا الملمح في قصيدة " نفس الشوارع " ، معبرة عن تيه الذات وسط شوارع المدينة / الوطن ، التي أورثتهم الجنون والخوف :
نفس الشوارع لسه فاكره لنا الجنون والخوف
وهربت مني .. سافر الإيقاع
العشق تعويذة
النيل عطش
شعر البنت تكعيبة ع الكتاف بتلم تعابين
الشوارع مسألة هزلية ، واحنا بنخاف
م الحكومة ونستخبى ف الهدوم " ( )
لم تعد الشوارع معبرة عن ألفة أبناء الوطن ، إنها مسألة هزلية ، فالشوارع التي تسمح للمواطن بالسير وتمنعه من التظاهر والتعبير عن حبه ؛ هي شوارع طاردة ، لذا ، بات المواطن ، مختبئا في ملابسه من الحكومة ، خوفا ، وإيثارا للسلامة . وتكون النتيجة الطبيعية لهذا ، أن جف النيل " النيل عطش " ، لتنقلب الدلالة ، ويصبح النيل شاهدا على تهاوي الوطن ومواطنيه ، وبدلا أن يكون النيل هبة لمصر ، صار شاهدا على انزواء مصر ، ومن ثم جف ماؤه ، وبدلا أن يكون شعر المحبوبة مثل تكعيبة العنب خضرةً ، وباتت الضفائر مشابهة للثعابين في التفافها.
وتتشابه التيمة لدى محمد حسني في قصيدته " عرايس النيل " ، وهي تتناص مع عادة الفراعنة القدامى ، بتقديم أجمل بناتهم لمياه النهر أملا في فيضان مبارك، وتوسلا لعدم انقطاع المياه ، لب حياتهم وحضارتهم، يقول:
" .. أول عرايس النيل تشد ف دمعتي آخر عروسة نيل بتتمرغ ف قلبي "
غنايا سر تعويذتك / على الجدران بتقراني
تسمعني رنين النيل
وإذا فكرت أقول مواويل
ألاقي صوتي مش مسموع ___ وأنا فاكر غناكي تماما " ( )
التناص مع " عرايس النيل " ، فيه وجهان متقابلان : استحضار الحضارة الفرعونية بكل إنجازاتها ، وعاداتها ، ورموزها ، وهو استحضار للفخر ، والوجه الثاني : بكاء على حالة معاصرة ، تراجع فيها الوطن ، وهذا ما عبر عنه مفتتح النص فعرايس النيل " تشد ف دمعتي " ، " بتتمرغ ف قلبي " ، وكلتاهما ممتزجة بالذات الشاعرة بإضافة ضمير المتكلم . ومن مظاهر أزمة الوطن / المكان ، الأذن الصماء التي لا تسمع أنين الآخرين ، مثلما لا تسمع شدو الشاعر ، وقد توحدت الذات مع النيل توحدا جماليا ، باستخدام مفردات الصوت : ( غنايا ، رنين، مواويل ، صوتي ) ، ويصبح الصوت مظهرا للحضارة ، وأيضا جسرا للتعبير عن ذات اكتوت بمن لا يسمعها .
كلا من محمد عبد المعطي ، ومحمد حسني ، من جيل واحد ، وفي سن متقاربة، وقد جاء كلا النصين في خضم تجربة واحدة ، في زمن واحد ؛ كما يشير تاريخ نشر الديوانين ، فالفارق الزمني بينهما عامان تقريبا .
ويشتد الصوت بإدانة في تجربة محمد حسني ، في آخر دواوينه ، حيث يتحول الخطاب إلى صراخ ، في قصيدة حملت عنوان " النيل " أيضا ، وكأنه الرابط بالوطن ، والعلامة أيضا على الوطن ، يقول :
أنت اللي عارفينك وطن
وصبرت لما كبرت فيك
علمتنا معنى السكن
وزرعت فينا الخوف عليك ....
فلو سمحت تقول لنا : هاتجيب منين تقاوي تشبه أصلنا ؟
واحنا إن لقينا ف وسطنا
بذرة ومن ريحة بطل نزرعها فين ... ؟ ( )
الخطاب واضح مباشر ، يحمل إدانة لتغييب أبناء الوطن ، لذا جاء بضمير الجمع " تقول لنا ، أصلنا ، نزرعها " ، مقارنا بين حالين : ما تم عرسه في النفوس من حب الوطن ( زرعت فينا الخوف عليك ) ، وبين حال راهنة ، صارت أرض الوطن فيه طاردةً أبناءها ، إن الضدية أساس الرؤية في هذا الخطاب ، فهي تطرح سؤال الانتماء : بين تنظير وغرس يتلقاه الشعب في المدرسة والإعلام والخطب ، ثم يجد الوطن / المكان مختطفا منه .
المكان / الطارد :
عندما يصبح المكان دافعا للانزواء ، وهذا نتيجة حتمية لتهاوي الحلم في المكان / الوطن ، فشعرت الذات بعمق الأزمة ، فاختارت المنفى ، ليصبح المكان الوطن منفى ، وقد يكون ما هو أكثر ، يقول مصطفى عبد الباقي :
لسّاك بتكابر
اضربها في راسك واعقلها
وساعتها
إديني أمارة أنك تسوى
وانك مش أكتر من ضل الحيط
ديتها دمعة
ربيتها في كوم اللحم
وشوية بكش ( )
إن قضية قيمة الفرد في الوطن هي الشغل الشاغل ، وقد جاء تعبير " ضل الحيط " مجسدا هذا المعنى ، وهو من علامات المكان ، فالظل انعكاس لشيء محسوس مادي ، والحائط لا تقام إلا في مكان ، وظل الحائط تعبير عن الوجود وعدمه ، فالظل يجسد وجود شيء ، وفي الحقيقة هو لاشيء ، إنه تعبير عدمي، شديد الدقة ، لأن الحائط يستلزم مكانا ، والمكان المقصود هو الوطن ، الذي يتعامل مع أبنائه على أنهم ظلال ، أشباه رجال ، فيمكن للوطن أن يعترف بالحائط المادي ، ولكنه لن يعترف بمكانة هذا الحائط ولا بمعنى انتصابه ، ويأتي الخطاب الشعري هنا بضمير المخاطب ، معبرا عن مكانة الفرد / الذات / الآخر ، فهو في النهاية : دمعة ، وبعض البكش أو الكلام المزخرف. ويقول:
الأرض بتتكلم صيني
وأنا ..
رحت ميه ورا خرم الباب
وباقلد العتمة( )
هنا تناص مع الأغنية الشهيرة " الأرض بتتكلم عربي " ، التي تغنى بها سيد مكاوي في زمن الحقبة القومية ، ولكن التناص يأتي بالسلب ، لتصبح الأرض ذات دلالتين مكانيتين مترابطتين ، الأولى : إن الأرض – هنا - ليست هي أرض العروبة ( العالم العربي ) وإنما كوكب الأرض المغرق بالبضائع الصينية ، أما الدلالة الثانية فهي أن الوطن مصر بات غارقا في الصيني : بضائع وبشرا وتجارا، بينما انزوى الإنسان المصري ، يراقب تراجع الوطن صناعة وإبداعا ، مؤثرا المنتوج الصيني رخيص الثمن ، على الإنتاج الوطني المدعم من الحكومة ، خلف الباب ينظر من فتحته ، إلى عتمة وظلام ، وهو غارق في عرقه خجلا وقد يكون خوفا ؛ إنها صورة سيريالية ، فالذات تسبح في عرقها ، وتبحلق في الظلام.
أما الشاعر سيد لطفي ، فهو يعزف على وتر أشد شجنا ، يقول:
" ... وبلاش تتكلم ،
عن طعم الغربة في حضن بلادك
اعتبر إنك مفطوم .
..........
- خايف ؟
- طبعا .
- ليه ؟
- أصلها أول مرة أموت .
- وآخر مرة ، غمض عينيك واشرب
بدل ما تستناه روح له ، مادام مش قادر تهرب ، اشرب " ( )

الخطاب موجه إلى الذات الشاعرة وأيضا لكل ذات على أرض الوطن /المكان، حيث يأتي تعبير " حضن بلادك " مؤكدا حقيقة الانتماء للوطن ، وأن الإحساس بالغربة على أرض الوطن هو الأشد مرارة ، ولذا جاءت الصورة واصفة الوطن حضن الأم ، معتبرة أن الفطام يعني ترك هذا الحضن ، وبتعبير آخر ، فإن الفطام يتحور لغويا من ترك ثدي الأم ، إلى ترك حضن الوطن ،وفي كلتا الحالتين، فإن الوطن كالأم ، لا تنكر ابنها مهما قست عليه ، مثلما لا يمكن الابن بنوته ، مهما تناءى عنها . الحوارية التي أعقبت هذا ، كانت منولوجا في أعماق الذات، يشي بمشاعر من الخوف ، ولكن الخوف ليس من رجال الأمن ، وإنما من الموت ، وكأنه يستعد للموت ، وأن الموت حتمي لا فرار منه ، وفي ثنايا النص ، فإن الموت يعني الهروب عن الوطن ، وبدلا من انتظار الموت ، فلتذهب له . وهنا نجد تتطورا في العلاقة مع الوطن ، فقد بات الاغتراب عنه أمر مسلم ، وبات الموت على ثراه أمر مألوف ، وهذا الموت لا يعني الموت الإكلينيكي ، بقدر ما هو اغتيال الذات بنفيها وإقصائها .
إن الاغتراب المكاني لا يهدئ الذات ، بل يشعلها ، وهذا ما يؤكده محمد حسني ، بقوله :
سافر وخطاويك الحزينة هتلاقيك
وهايعرف المشوار بداية خضتك
بتقول سنين ما هتعرفكش
وانت اللي ملبوس بالوطن والأمكنة ( )
المفارقة أن يكون عنوان النص " استغماية " ، وهي لعبة شائعة ، أساسها المطاردة بين فريقين أو فردين ، وهي لعبة مكانية ، فالمطاردة تقتضي أمكنة للاختباء والركض ، وهنا يصبح اللعب بين الذات الشاعرة والوطن ، فعندما فرت الذات إلى الغربة ، طاردها الوطن في أعماقها ، وكأنها مسحورة بعفريت أمكنته، ونلحظ استخدام الشاعر مفردات مكانية ، فالخطوات الحزينة لا تبدو إلا على فضاء مكاني ، والمشوار ما هو إلا قطع لمسافة مكانية . وهذا ما يجعله يخاطب نادي حافظ – شاعر من الفيوم مغترب بالخليج – بنبرة تحذيرية :
رايح لقدرك
بس نيلك عطش
والخوف تكون رايح تسف الرمل
أو ترمي ندرك ليه
الخوف عليك أكتر هناك تستطعمه
ترجع ما تعرفش الخضار
غير العلامة الوسخة على وش الدولار( )
يكرر تعبيره " نيلك عطش " الذي يتناغم مع معطيات جمالية مرت بنا ، ولكن النيل يأتي بخصوصية ذات المخاطَب ، في إشارة إلى صعوبة الحياة في الوطن فبات طاردا أبناءه . وتأتي مفردة : " الخضار " معبرة عن اخضرار الوطن أمام مفردة " الرمل " المعبرة عن أرض المهجر .
* * * *
المسافة بين المكان الحلم ، والمكان الطارد غير موجودة ، فكلاهما معبر عن مكان واحد ، إنه الوطن ، ولكن المسافة بين الذات المبدعة والمكان الحلم تتباعد كلما ابتعد الوطن عنها ، وحاربها .

الهوامش :

) محمد عبد المعطي ، ديوان " بنت ما ولدتهاش ولادة " ، منشورات فرع ثقافة الفيوم ، 2000 ، ص13،14، قصيدة " باحلم .. باغيب "
) السابق ، ص35 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " أو خطاوي العشق موت " ، نشر خاص بالشاعر ، 1998م ، ص3 ، 4 .
) محمد حسني إبراهيم ، ديوان " المكان جواك محاصر " ، دار اكتب للنشر ، القاهرة ، 2008م . ص 18 .
) مصطفى عبد الباقي " صباح يوم بيتكرر كثير " ، ديوان ، صادر عن سلسلة إبداعات العدد ( 253 ) ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2008م ، ص35 .
) السابق ، ص69 .
) سيد لطفي ، عادة كل يوم ، منشورات إقليم ثقافة الفيوم ، 2003 ، ص5 .
) المكان جواك محاصر ، ص24 .
) السابق ، ص6 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق