السبت، 17 أبريل 2010

قراءة نقدية في قصة " الحنطة " للدكتور مصطفى عطية

قراءة في قصة " الحنطة " لمصطفى عطية
للمبدع والناقد/ أحمد يحيي
( نشرت على موقع الورشة الإلكتروني )
مازلت مصرا على أن الدكتور مصطفى عطية جمعة يكتب القصة الواقعية "المختلفة" بعد أن استنفذت الواقعية أشكالها وآلياتها، وبعد أن أصبح الواقع أكثر صدما مما يمكن لمخيلاتنا أن تذهب...ورغم أن الأبداع الأدبي عمل فردي محض، وأنه ما من شكٍ أن بناء النص الأدبي لا يبتعد كثيرا عن بناء كاتبة ومرجعياته الثقافية على مستوى العادات والتقاليد والتاريخ والمحتوي المعرفي الذي يرتكز عليه هذا المبدع في الكتابة والتأصيل لأفكار تغيب -ربما- على مستوى السطح لكنها لا تموت وتظل قابعة في "لا وعيه" الواعي الذي يكتبه، لا نستطيع أن نغفل أيضا تداخل المتلقي في إنتاج النص وتأويله بحسب تعبير بارت "مُنْتِج للنص" كعنصر فعال في صياغته وتركيبته النهائية التي ربما تختلف اختلافا كليا أو جزئيا عما أراده المبدع، وربما أستعيد هنا كلمة بارت الشهيرة "كل نص هو تناص"، للتعبير عن تفاعل لغوي وتركيبي ما بين "نص غائب" و "نص ماثل" لتكون "نصا" تفاعلت فيه النصوص الغائبة فرادى أو مجتمعين من مرجعيات الكاتب الثقافية ومحتواه الفكرى - الشعوري واللاشعوري- باعتبارها أدوات الإبداع، لتكون نصا ماثلا حاضرا بين يدي متلقٍ هو أداة تفسير النص وتأويله طبقا لمرجعياته الخاصة وثقافته المتفقة أو المختلفة أو المتقاطعة مع ثقافة كاتب النص، لتظل العلاقة في تجاذب بين أخذ وعطاء وقبول ورفض بين المتلقي والنص مما يشكل تناصا آخر مع مرجعيات القارئ... ويجدر بي هنا أن أنوه أنه ليس من الضروري رغم اقتناعي بكثير مما طرحه "بارت" أن أكون مؤمنا أو ملمحا لفكرته الشهيرة "موت المؤلف" حتى وإن اقتعت كليا أو جزئيا برؤيته عن التناص، أو برؤية جوليا كريستيفا من أن النص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات.ربما كانت هذه المقدمة ضرورية بشكل ما للحديث عن قصة تسقط على الواقع المعاش بشكل ما وهذا الإسقاط في عقيدتي نوع من أنواع التناص، فليس كل تناص يعني تقاطعا لغويا "textile" لكنه يتخذ أشكالا عدة سنحاول استبيانها باختصار من خلال قراءتنا لعمل يستحق القراءة بالفعل....العنوان:جاء العنوان بسيطا جدا من كلمة معجمية لم تعد مستخدمة بشكل كبير، تحمل نفسا أسطوريا، فقد وردت في العهد القديم حوالي أربعة وخمسين مرة، وفي العهد الجديد حوالي ثمانِ مرات...فَلْيُعْطِكَ اللهُ مِنْ نَدَى السَّمَاءِ وَمِنْ دَسَمِ الأَرْضِ. وَكَثْرَةَ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ. سفر التكوين - العهد القديموَتَصْنَعُ لِنَفْسِكَ عِيدَ الأَسَابِيعِ أَبْكَارِ حِصَادِ الْحِنْطَةِ. وَعِيدَ الْجَمْعِ فِي آخِرِ السَّنَةِ. سفر الخروج - العهد القديمأَرْضِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَكَرْمٍ وَتِينٍ وَرُمَّانٍ. أَرْضِ زَيْتُونِ زَيْتٍ، وَعَسَل. سفر التثنية - العهد القديموَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. إنجيل متى - العهد الجديدوَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! إنجيل لوقا - العهد الجديداَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. إنجيل يوحناوقد كانت مصر كا ذكر بليني - تملك أفضل أنواع الحنطة. وافضلها على لإطلاق، وتبين النقوش الفرعونية سنابل الحنطة على الآثار المصرية القديمة. ولا يخفى المعنى المبطن من أن مصر التي تملك الحنطة تساعد في تجويع غزة بكل وضوح...!إذن نحن أمام عنوان يحفز المخيلة ويهيؤها للدخول إلى أسطورة ما، أو حكاية لها من التمادي في المطلق ما لها.اللغة:لغة بسيطة وجمل قصيرة مقطعة،متتابعة في سلاسة، أحالتني مرجعيا للنصوص المصرية القديمة وخاصة كتاب الموتى - ربما أكون مبالغا في ذلك لكنه تفاعلي مع النص على كل حال - وأرى أن هذه الإحالة تتماشي مع ما أراده د. مصطفى من تعليق على أحداث تلفنا الآن، أحداث غزة تحديدا، فمع كل التناقض في الموقف السياسي المصري كان لابد أن تستدعى حضارة مصر الخالدة ليصير التناقض بينا للعيان بين ماضٍ تليد وحاضر مخزٍ ومستقبل لا كنه له... فمفردات مثل "الحيات" و "قرص الشمس" و "الأفاعي" و "العقارب" و "الحنطة" لا يمكن لها ألا تحيلنا إلى النصوص المصرية القديمة، ناهيك عن تركيبة الجملة وديناميكيتها...سيطرت على اللغة ألفاظ اليأس والموت والبشاعة في بعض الأحيان، فالجو العام للقصة يستوجب ذلك، من هاربين لا أمل لهم من قرية "بربرة" بعد موت الأب"بكار" وموت الأم "برية" وموت الإبن "فرح"
سيطرت على اللغة ألفاظ اليأس والموت والبشاعة في بعض الأحيان، فالجو العام للقصة يستوجب ذلك، من هاربين لا أمل لهم من قرية "بربرة" بعد موت الأب"بكار" وموت الأم "برية" وموت الإبن "فرح" ونفاذ الحنطة، فنرى ألفاظا مثل "حيات" و"نيران" و"قذائف" و"عقارب" و"قبر" و"موت" و"أنقاض" و"تصلب" و"ظلام" ونرى تركيبات تنضح باليأس مثل "تصلبت الرمال أمام أظفارنا" و "أنترك عظامك تنبت الأشواك" و"الأرض هنا لن تجود بقبرك" و"لظلام مطبق" و"الصمت يملأ جسدي" ثم زروة المأساة في "ثم تلاحقت . . . أسنانهم على اللحم المنتفخ"... دلالات الاسماء:استوقفتني كثيرا دلالات الأسماء التي اختارها د.مصطفى والتي جاءت متوافقة تماما مع الجو النفسي للحكايةالأم "برية" : جاء في لسان العرب أن البرية هي "الأَرضَ المنسوبةُ إِلى البَرِّ وهي بَرِّيَّةً إِذا كانت إِلى البرِّ أَقربَ منها إِلى الماء"، فالأم "برية" ماتت أي أن الأرض ماتت، وموت الأرض لا يخفى معناه من الضياع والتشرد والشتات...الرضيع "فرح": مات هو الآخر رضيعا، فلا "فرح"، ولن يكون فالأم ماتت والأب مات...الأب "بكار": احترت كثيرا أمام دلالة الاسم هنا هل يحيل على "بكار" الشخصية الكرتونية المصرية الجنوبية المتوقدة الذكاء والفطنة؟ أم يحيل على "بكار بن قتيبة" الذي أرسله الخليفة المتوكل لتولى القضاء في مصر، والذي عرف عنه العدل والعفة والنزاهة وكان له موقف شهير من ابن طولون الذي حاول تسييس القضاء باستصدار فتوى بخلع "الموفق" فأبى بكار فسجنه ابن طولون وحاول استرضائه قبل مماته فقال له كلمته الشهيرة "شيخٌ فانٍ، وعليلٌ مُدنف، والملتقي قريب، والقاضي الله عز وجل"... وأنا أميل إلى هذا الطرح فهو الأقرب لجو القصة وما ترمي إليه، وما آل إليه حال قضاء مصر الذي كنا نباهي به ذات يوم.بلدة "بربرة":يحيلنا اسم البلدة فورا إلى تخيل ما حدث بها، لابد أن يكون عنيفا فجا شرسا "بربريا" باختصار على اعتبار المعنى الشائع للفظة "بربرية"، غير أننا يمكننا أيضا أن نحمل على هذا الاسم معنى "البربرة" والبربرة هي الثرثرة والجلبة بلا طائل والهذيان ولا يخفى ما اشتهرنا به - كعرب - من مطولات الكلام ولا أفعال، وظهر ذلك جليا في "حالة غزة"...الحكاية :كما أسلفنا في غير ذات موضع أن "القاص فما يشطب لا فيما يكتب"... نحن لا نعرف من أين أتوا ولا إلى أين ذاهبون، فقط هم أتوا من بلدة "بربرة"، بكل ما يوحيه الاسم لنا من ممارسات بربرية وثرثرة لا طائل من ورائها، ويريدون الوصول للحدود، لكن في كلمات بسيطة نستطيع أن نفهم أنهم هاربون من القصف "تُعالي صوت القذائف"، هي الحرب إذن، ولا نجاة مع موت "بكار" وموت "برية" وموت "فرح"، فضلا عن توحد زمن الحكاية مع زمن السرد مما يوحي بإطلاق الحكاية ولا محدودية زمنها، وتهويم المكان كل ذلك يصب في خانة إطلاق الحكاية، إنها حكاية كل الأزمنة في أرض بلا رحمة...الحوار وأصوات النص:لعل أهم ما يميز هذه القصة هو تعدد أصواتها، في تتابع حيث تبدأ كل شخصية الحديث و لا تتركه إلا بالموت... إنه اليأس ثانية، إنه الموت الذي يخرس كل شيء، وأرى رغم كل ما يخيم على جو القصة من يأس وموت وضياع أنها تنتمي لأدب المقاومة بمحاولة تشكيل وعي جمعي يؤمن بالحرية وسبلها، ويستنكر فقدان كل القيم من عدالة وحق في الحياة بأبسط مقوماتها، فالأديب لا ييأس أبدا مها كتب عن اليأس والإحباط والضياع، فكتابته في حد ذاتها هي عمل إيجابي يستنفر الطاقات لفعل عكسي ثائر ورافض لكل السلبيات التي تغمرنا، فالإغراق في اليأس محاولة لوخز الأمل وصدم الوعي الجمعي يدفعه قسرا لتبني موقف مضاد ومقاوم، فالكتابة عن السلبيات بكل هذه القتامة هي إيمان بالقيمة المفقودة وبحث عنها وكما قيل "الكتابة عن السلبيات أشرف بكثير من الكتابة عن الإيجابيات"...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق