السبت، 17 أبريل 2010

قصة قصيرة : حلوق حارة

حلوق حارة

تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة . يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة .
رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا .
تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . . أشار نحو المخزن ، قائلاً :
- تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
صاح فيه ، و فيهم :
- حافظوا على الثمرات الفارغة .
كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد . السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
- ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
" صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
" الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه .
يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق