الخميس، 15 أبريل 2010

قصة قصيرة : رأس بارز

قصة قصيرة : د. مصطفى عطية
رأس بارز

تتحرك منحدرة من فوق مرتبتها ، تجرّ رجلها الفاقدة الحياة ، وبيدها تضبطها كلما زحفت. صرير باب الغرفة المكتوم ، درجتا سلم حجري تواجهها ، وبصيص من ضوء البكور ، تطالع الملح المتكلس على الحجر والجدران . تلتقط أنفاسها ، تحبو ، الدرجة الأولى ، ثم الثانية ، رجلها معلقة لأعلى ، تسحبها بتأوه خافت . تتشبث بثنيات الباب الخارجي للبيت ، تحرّك المزلاج .
أطلّ رأسها ، البكور ، زقزقة العصافير ، الأرجل تدب في الشارع . يهدمون بيت " نبوية أم شعبان " ، كانت هي وكل إخوتها ، بنسائهم وعيالهم .. ، الأطلال تنحسر عن مساحة صغيرة . كيف كان تجمعهم تلك الجدران ؟ منذ أن ماتت نبوية ، تفككوا ، وصفّى الصغير البيت لنفسه .
عمارة الحاج " جلال " ، خمسة أو ستة أدوار .. ، ترفع بصرها تعدها .. ، سبحان العاطي ، كان مرمطونًا عند المرحوم زوجي .
* * *
من الشرفة ، تقول " أم سيد " :
- شوفي الحاجة " تحيات " ، اشتاقت للشارع .
ترد ابنتها :
- أسمع عنها ..
- مريضة منذ سنين ، وحبستها ابنتها " أحلام " في غرفة تحت السلم .
* * *
من بُعدٍ ، طالعتها إحداهن، وكانت تسير في الشارع ، حاملة قفة خضار :
- شافت أيامًا مع زوجها المعلم " محي " ، عزًا وذهبًا .
رفيقتها ، تنظر للرأس البارز :
- دوام الحال من …….
- أنجبتْ له خمسة رجال وبنتًا واحدة .
- وأين هم ؟
- كل واحد تسيّره امرأته .
* * *
الرأس البارز يستند للباب ، أنهكه التطلع ، بعدما ارتفعت العمارات حاجبة أشعة الشمس ، "الحارة الضيقة نفق ملتوٍ ، يمتليء بالدراجات البخارية المركونة أمام الأبواب " .
كنت أجلس كل ليلة على العتبة قدام بيتي ، وبجواري قلة المياه التي يفوح منها النعناع ، وكوب الشاي ، وأنادي على جاراتي ، ونسمر باللب والذرة المشوية … ، لا مكان لي بين هذه الأعمدة والعمارات . يتراجع الرأس البارز .
* * *
الجارة ثانية لابنتها :
-" أحلام " بنت " تحيات " ، على كل بياضها وشعرها " السايح" ، ركنت جانب أمها بعد زوجين .
- والسبب ؟
- عقلها خفيف ، وفلوس أبيها دلّعتها .
تردف :
- وزوجها الأول أخذ العيّلين منها . فعاشت تناكف أمها .
* * *
تلتقط أنفاسها ، كأن درجتي السلم بناية عالية ، رجلها ثقيلة كالدهر وهي تسحبها . ترتخي الأصابع ، تتنسم هواءً من فرجة الباب ، " تحمل النسمات رائحة الهدم " .
ربما تكون الذكرى أريجًا ، يصاحبني في أويقات الزمن المتسحبة ، وربما تكون المرتبة القطنية ألين من العمارات المتطاولة .
صوت " أحلام " :
- أين أنتِ يا ولـيّة ؟ حبوتِ ثانيةً ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق